ما يجري في أميركا اليوم بعد مقتل جورج فلويد ذي البشرة السوداء بدم بارد من قبل شرطي أبيض، يكشف جانبا من العنصرية التي مازالت تنخر المجتمع الأميركي، عنصرية تظهر جلية في ممارسات الشرطة الأميركية أكثر من مرة تجاه السود، ممارسات تجسد العنصرية في أبشع تجلياتها، حيث يعامل الرجل الأسود باحتقار يصل حد القتل المجاني. لكن العنصرية في أميركا ليست فقط ضد السود، فقد شاهدنا مؤخرا في ندوة صحفية للرئيس الأميركي دونالد ترامب يرد على صحفية أميركية من أصول آسيوية بما يلمح إلى أصولها بسخرية. العنصرية تقريبا تدخل في مناطق كثيرة، وضد كثيرين، إنها قضية مركبة ومعقدة كما يبينها المسلسل الأميركي “كيف تُفلت بجريمة قتل؟” لا يمكنك مشاهدة المسلسل التلفزيوني الأميركي “كيف تُفلت بجريمة قتل؟” من بطولة النجمة الأميركية السوداء فيولا ديفيس، دون أن يستحضر ذهنك ذلك المشهد البديع الذي قدمه ليوناردو دي كابريو في فيلم كوينتن تارانتينو “جانغو الحر” الذي كان فيه ديكابريو يحاول شرح العنصرية في درس عملي مستخدما جمجمة عبد أسود بيد وباليد الأخرى منشارا يحفر العظم للوصول إلى حجرة تعبر عن تأخر الذكاء الأسود المتأخر عن نظيره الأبيض المتقدم. حينها جرح ديكابريو يده بالمنشار فعلا، بسبب انفعاله في أداء المشهد، وتأثره بحرارة الموقف العنصري البغيض الذي كان يرسمه حيّا. اندفعت الدماء وسط دهشة المخرج والممثلين دون أن يتوقف ديكابريو ولو لحظة واحدة. بل إنه قام بصبغ وجه الممثلة السوداء التي يدور الحوار عنها بالدم إمعانا في الكراهية. هذا كله سيرافقك مع أجزاء المسلسل الذي تقدمه المحامية وأستاذة مادة القانون في جامعة فيلادلفيا في القانون أناليس كيتينغ. والتي تنتقي مجموعة من طلابها المميزين، ليعملوا معها في مكتبها – بيتها على القضايا التي تتولاها. تصرف نبيل ظنه الطلاب نوعا من التشجيع والتدرّب المبكر على المحاماة، لكن هذا لم يكن غرض أناليس على طول الخط. قتل أم دفاع عن النفس تظهر أناليس وكأنها عقل إجرامي يتقن التخطيط للجريمة ويملك مهارة الإفلات منها ببراعة، عبر تجنب ألغام القانون مرة، وعبر إعادة بناء واقع قانوني لن يفضي إلا إلى براءة المتهم مرة أخرى. لكن الصورة لم تكن كذلك على الدوام. فالمشاهد الذي سيبقى مشدودا من حلقة إلى أخرى، لن يتمكن من الشك للحظة واحدة في أن أناليس كانت فقط تحاول إنقاذ الآخرين، فهي لم تقتل أحدا ولم ترتكب ما يخالف عليه القانون، بقدر ما كانت مخلصة لمهنتها الأصلية، وهي تبرئة المتهم، بأي ثمن كان. تختلط حياة الأستاذة مع الأنماط المختلفة للطريقة التي يعيش بها كل طالب من طلابها المختارين. ولن يتأخر كل واحد منهم في ارتكاب الحماقات التي ستتسبب بورطة إثر ورطة لن يجد أحدا يخلصه منها سوى أناليس التي تؤدي دورها حاملة الأوسكار فيولا ديفيس التي حصلت بفضله على عدة جوائز دولية هامة. التحايل على القانون التحايل على القانون المسلسل عرضته أول مرة قناة إيه.بي.سي في سبتمبر عام 2014. وهو من تأليف بيتر نووك وإنتاج شوندا ريمس واستديوهات إيه.بي.سي. وكان حضور الطلاب الخمسة الذين يؤدي أدوارهم ألفريد إينوك، مات ماكغري، كارلا سوزا، جاك فالاهاي وأجا نعومي كينغ مكملا عالم أناليس الذي يشغله أيضا مساعداها بوني وفرانك، شارلي ويبر وليزا ويل. في ستة مواسم، أحدثها انتهى عرضه منتصف مايو الماضي في ذروة استفحال وباء كورونا، وحقق من خلالها نسب مشاهدة عالية جدا، كانت أناليس في جميع الحلقات بمثابة الملاك الأسود، الذي يحضر في الوقت المناسب ليجد المخرج المناسب. وسط عالم من التربص والعنصرية أضيف إليها التمييز على أساس الجنس ومعاداة المثلية الجنسية، ليصبح مناخ المسلسل قائما بأكمله على الضغط على المشاهد وتوتيره وجعله في حالة ترقّب مستمرة لكل تطور في هذا المحور أو ذاك، أو هذا الخط الدرامي المعقّد أو غيره. حبكة تبدأ مع جريمة غامضة ارتكبها سام الطبيب النفسي وزوج أناليس الأبيض، تزامنا مع دخول الطلاب عالم أستاذتهم، وفي الوقت الذي يظهر فيه صديقها الحميم الذي يؤدي دوره بيلي براون محقق الشرطة الأسود. لتنتهي مرحلة الحكاية الأولى بقتل الزوج على أيدي الطلاب. المسلسل التلفزيوني يظل مثيرا للجدل الأخلاقي والقانوني، من لحظة بثه أول مرة إلى جميع الأجزاء التي عرضت منه المسلسل التلفزيوني يظل مثيرا للجدل الأخلاقي والقانوني، من لحظة بثه أول مرة إلى جميع الأجزاء التي عرضت منه جريمة بدت دفاعا عن النفس، ولكن كان على المعلمة الحكيمة أن تغطي عليها لأسباب سيعرفها المشاهدون لاحقا. دوائر الحدث تقود إلى وضع المشاهد في حالة ذهنية مركّبة، فهو من المربع الأول يرفض التعاطف مع الجرائم ودوافعها، غير أنه يجد نفسه ليس منحازا إلى القتلة وحسب، بل أيضا شريكا لهم في التخطيط والبحث في منطق القانون الجنائي الأميركي عن ثغرات ينفذ منها المتهمون. أثار هذا العمل الجدل الأخلاقي والقانوني لحظة بثه أول مرة، وفي جميع الأجزاء التي عرضت منه. فهو أقرب إلى دليل المشاهد لتنفيذ جريمة كاملة لا يمكن للقانون محاسبته عليها. أما حيلة المتابعة والتشارك الذهني فقد تمت صناعتها ببراعة في غالبية مشاهد العمل، وصحيح أن العمل هو خيال بخيال، لكنه يعتمد منطقا يجعل من الراوي الشخصيات ذاتها، باستثناء الخروجات البارزة التي يجد صناع العمل أنفسهم مضطرين إليها حين لا يكون هناك شاهد على جريمة ارتكبت، أو اعتراف بلسان المجرم. على مدرج جامعة فيلادلفيا، يتكرر مشهد دخول الأستاذة العبقرية معتلية المنصة، وطارحة على طلابها معادلة أقرب إلى البحث المنطقي القانوني منها إلى الالتزام الحرفي بالنص. وما عليهم سوى أن يجدوا لها الحلول كما في عالم الرياضيات والفيزياء. لا شيء يمكنه أن يهزم أناليس سوى أناليس ذاتها، تلك الطفلة التي تعرضت للاعتداء الجنسي على يد أحد أقاربها، ما خلف تشوها عميقا في شخصيتها، قادها مرات إلى الانحراف الجنسي وفي مرات أخرى جعل منها قابلة لارتكاب جريمة أو للتستر على جريمة، وهو ما لا يختلف بشيء عن تنفيذها بيديها. لم ترحمها أحداث حياتها، وفي الوقت ذاته لم تكن تلك الأحداث منفصلة عن قرارات مهنية كانت قد اتخذتها بنفسها، ففقدانها لطفلها وهي حامل في شهرها الثامن بعد حادث اعتقدت أنه مدبّر، قاد شكل حياتها وانفعالاتها وعلاقتها مع زوجها إلى متاهات لا نهاية لها، انتهت بها مدمنة على الكحول، وهي التي تحرّم عليها مهنتها الوقوع في ورطة كهذه. هل كانت أناليس تكفّر عن ذنوب لم ترتكبها بارتكاب ذنوب جديدة تبدو وكأنها مساعدة للآخرين؟ ربما. فإنقاذها لبوني التي ستصبح مساعدتها لاحقا، بعد أن تقدم لها يد المساعدة وتدرجها في صفوف الجامعة لدراسة المحاماة، ليس سوى نوعا من التطهر من قيام أناليس بسحق بوني من قبل على منصة الشهود في إحدى قضاياها. بوني التي تعرضت بدورها لاستغلال جنسي طويل الأمد على يد أقرب المقربين، وكانت أناليس ترى فيها نسختها البيضاء التي ستبقى مخلصة لها طيلة الوقت. عالم أناليس المعقد حياة الأستاذة تختلط مع حياة طلابها حياة الأستاذة تختلط مع حياة طلابها في عالم أناليس، ويس غيبينز الذي رعته منذ طفولته وساهمت في قبوله بشكل استثنائي في صفها، لم يكن جديدا عليها كبقية طلابها، هو روس الذي فقد والدته بسبب أناليس وقضاياها. والذي سيفقد حياته بسببها أيضا. فرانك الذي لا يعجز عن فعل أي شيء لدعم أناليس، قامت هي وزوجه بجلبه من عالم الجريمة إلى محيطها ليصبح لصيقا بها، ولم تغير كثيرا معرفتها مع الوقت أن فرانك قد يكون السبب المباشر في فقدانها لابنها. سيبقى فرانك نموذجا للعبد الأبيض الذي يخدم سيدته بأي ثمن. أما كونُر والش النزق والمزاجي والمتشائم، فسوف يستغرق طويلا من زمن المسلسل في جميع أجزائه، من خلال متابعة رحلته في عالم المثلية. ولكنه في لحظات صعبة، يكون الأقرب إلى أناليس والمساعد القوي في مواجهتها للمحكمة العليا دفاعا عن العشرات من المتهمين الذين يقضون في السجون أحكاما مشددة فقط لأنهم يجهلون حقوقهم، ولأن محامييهم كانوا قد استخفوا بواجباتهم تجاههم أو قاموا بخداعهم وتضليلهم. المشاكسة السوداء ميكيلا برات أكثر طلاب أناليس تقلبا في عالم الحب، والأكثر رغبة بالتشبه بمعلمتها. صديقة آشر ميلستون ابن القاضي الفاسد الثري وطالب أناليس. البدين صاحب الروح المرحة والذي يفاجئ الجميع دوما بقدرته على الغفران رغم شكواه المتواصلة من التمييز ضده. أما صديقتهم اللاتينية التي سيتضح أنها سبب المشاكل كلها، لوريل كاتستيلو وهي سليلة العائلة المافوية التي تشتري الشرطة والقضاء والاتصالات وكل شيء. والتي ستنجب طفلها من أب غير متوقع. طفل سيتعلق به أوليفر الآسيوي المصاب بالإيدز وصديق كونر، وخبير التكنولوجيا والإنترنت الذي يتسلل إلى أي مكان تحتاج أناليس لاختراقه. ووسط صخب ما يجري في أميركا اليوم، يبدو مسلسل “كيف تُفلتُ بجريمة قتل؟” وصفة سيكولوجية للمشاهدين السود الذين يرون في جورج فلويد ضحية الوحشية البيضاء، ولن يكون عليهم سوى تعلّم النجاة بأنفسهم من تلك الجريمة التي أودت بحياة فلويد بدلا من ارتكاب جرائم أخرى مثلها.
مشاركة :