ما زلنا ننتظر شكل ثقافة الحياة الإنسانية في زمن ما بعد كورونا، كما تم تبشيرنا من قبل كثيرين، رأوا أن صفحة تطوى، وأنه لا عودة إلى الوراء. لا شك أن هناك طورا جديدا يبدأ، لكن من قال إن كورونا وحدها كانت السبب؟ هي ذروة التراكم العليا لكل ما سبقها من أعاجيب عاشتها البشرية، قادت الإنسان من يده ليعيش لحظته هذه بجدارة. سأستعير عبارات قرأتها في عصر ما قبل كورونا للفيزيائي والكاتب النمساوي فريتيوف كابرا الذي يرى أن نظريتي الكم والنسبية في فيزياء القرن العشرين “تدفعانا نحو رؤية قريبة جدا من رؤية البوذية والهندوسية أو التاوية للعالم، ويزداد التشابه بين الجانبين كلما ذهبنا نحو وصف العالم ما دون الميكروسكوبي”. ولم لا؟ لقد تمادى البشر في جوعهم إلى كل شيء حتى وإن ابتلعوا في طريقهم أي شيء. ويكفي أن نعلم أن الحياة من حولنا تخسر سنويا أكثر من 30 ألف نوع من النباتات والحيوانات، من أصل 14 مليون نوع، بينما يعتمد الإنسان على 40 ألف نوع فقط في معيشته وطعامه وشرابه ولباسه. فأي تغيير مخيف كان شكل الحياة السابق يُحدثه؟ اختفاء “حياة” مهما صغر حجمها، كانت تسبح من حولنا مثل اليراعات المضيئة في الليل، قد لا يكون أمرا يستحق التفكير عند البعض، لكنه في الحقيقة اختفاء عنصر من الصورة، والصورة بلا عناصرها المتوازنة ستختل وتبدأ بالتلاشي، حين تلحق بهذا الغائب عناصر جديدة تتأثر بانعدام وجوده. إن وعي ذلك التوازن الذي يتجاوز المفهوم الحيوي ليشمل كل موجودات الحياة سيكون أول مفاتيح المستقبل الذي ضللت دراساته التنبؤية الكثيرين، حين اعتمدت على العرافة والشعوذة العلمية والتحليلية، فظن العالم أنه يسير على نهج آمن. لكن مفاجأة صغيرة جاءت من الصين فتّحت الأعين على أن السير كان خطرا للغاية. هنا التغير الكبير. وليس في التباعد الاجتماعي وغيره، بل في أن كل ما ركن العالم إليه في قرن الغطرسة الإنسانية، القرن العشرين، لم يعد صالحا في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. لا يمكنك أن تتعالى على الطبيعة وقوانين الوجود العلمية، لأنها أقوى منك وأشد مكرا. ولا يمكنك أن تبقى إلى الأبد ترفض منطق العقل والحكمة، لأنك من دونهما مجرد كائن مذعور محبوس في بيته. أما كابرا فيبقى يهمس لنا قائلا إن “التماثل بين الفيزياء الحديثة وبين الصوفية الشرقية كبير للغاية، ويصل أحيانا حدّ صعوبة الفصل في ما إذا كان من صُنع الفيزياء أو من صُنع الصوفيين الشرقيين”.
مشاركة :