أوشك عجوز على الوفاة، في ليلة من ليالي الخمسينيات الباردة، فجاء معارفه لزيارته، ومن بينهم رجل بدين ماكر، كان في صباه عاملا في مصبغة قلعة ماردين القديمة، وأصبح في ما بعد تاجرا بقدرة قادر يقرض الناس المال ويأخذ منهم فوقه “الربا” الذي يضخّم ثروته. وأخذوا يواسونه ويشدون على يده، بينما بقي البدين صامتا، وحين جاء وقت المغادرة، وقف بزاوية الباب وقال للعجوز المحتضر وسط ذهول الحاضرين “يا عمي غدا إذا جاءك عزرائيل ليأخذ الأمانة، ماذا ستقول له؟ هل ستقول إني أكلت مال هذا المسكين السمين الذي لا حول له ولا قوة؟ ألن تكتب في وصيتك أن يدفع لي ورثتك فوائد القروض التي أقرضتك إياها؟ خاف الله يا عمي أمامك حفرة وحساب!”. وأخذ يبكي منهارا عند الباب مثل الطفل. وفي لحظة انقلب المرابي إلى مظلوم، وبات يدحرج الكلمات المتباكية، لعله صدّق أنه صاحب حق وأن العجوز تجنّى عليه. مشهد من تعاملات الشرق التي تحتاج إلى دماغ أينشتاين لتفكيكها. إنها المظلومية؛ شعور عميق بالانتهاك وسلب الحقوق. استثمار ممتاز في الجموع. يمكنك أن تلقنهم إياه مع لقاحات الأمراض السارية، ولن ينسوه يوما، خرافات وحكايات وأقاصيص عن الآخر لا تلبث أن تخلق العدو إثر العدو. اكتشاف مشرقي وبراءة اختراع لم يتوصل من بعده أهل تلك المنطقة إلى ما يقنعهم بأنه أهم منه وأكثر جدارة بالعيش من أجله. فتك الناس بالناس وسيفعلون اليوم وغدا. ولا يمكن لأحد توقع متى ستنتهي ماكينة إنتاج تلك اللوالب المتكررة. حمولة ثقافية وإنتاج وصناعات واقتصاد، كلّها قائم على مظلوميات، أشهر وأشطر من استعملها هم الإسلاميون بمختلف مللهم ونحلهم ومذاهبهم، يعرفون جيدا كيف يشغّلونها للتهييج والتحريض ويتقنون برمجتها حسب مصالحهم. علموا ذلك للمستبدين، فصار المستبد مظلوما مثل صاحبنا الصباغ المرابي، ثم علم المستبد ذلك لأجيال جديدة. فصرنا في “عصفورية” تضج بالمجانين. يعتقد كثيرون أن مستشفى المجانين استعار اسمه “العصفورية” من عصافير تزقزق حول رأس المريض. لكن الحقيقة أن الكلمة لا تحمل أي إشارة للسخرية من أولئك الذين ربما نكون منهم دون أن ندري. إذ يروون أن نهايات القرن التاسع عشر شهدت قيام إرسالية مسيحية أميركية ببناء قرابة الخمسين مبنى قرب منطقة الحازمية في لبنان في منطقة تعرف بالعصفورية لكثرة أشجارها وطيورها. فأخذ الناس يطلقون التسمية على كل مستشفى للأمراض العقلية. وهي ذاتها البيمارستان الذي صار اسمه “الموريستان” في الشام و”السرايا الصفرا” بمصر و”الشماعية” في العراق. ترى كيف ينظر إلينا سكان تلك المباني من نوافذهم وماذا يقولون عنا اليوم؟
مشاركة :