عرّت القرارات المتعلقة بدور العبادة في مصر أثناء تفشي جائحة كورونا أسلوب التعامل مع هذه المؤسسات وعدم المساواة التي تخفيها. ففي حين تم منح الإذن للمساجد بفتح أبوابها وأداء الصلوات فيها لم تحظ الكنائس بنفس الفرصة وهو ما يعتبره المتابعون سلوكا يخفي ذهنية راسخة في المجتمعات العربية تتلخص في التدين الظاهر. ويرون أن هذا التهميش لدور العبادة المسيحية يخفي دوافع إصرار البعض على ضرب مفهوم التعددية الدينية وتقديمه في شكل عنصري يحضّ على الإقصاء. القاهرة - أظهرت جائحة كورونا أن هناك مشكلة أزلية في مفهوم التدين عند التيارات الإسلامية والأغلبية المجتمعية في البلدان التي تحتضن أكثر من دين، لاسيما عند طرح النقاش حول فتح دور العبادة مرة أخرى بالتزامن مع خفض إجراءات محاربة الوباء، يحدث ذلك وبعض الحكومات تراقب المشهد، وتنتظر تفاعلاته. يمكن بسهولة اكتشاف التركيز على فتح المساجد، باعتبارها رمزا للدين الذي تنتمي إليه الأغلبية السكانية في أي بلد مسلم، في حين يتم تهميش الحديث حول ذات الأمر بالنسبة للكنائس، ما يطرح تساؤلات مبهمة حول دوافع إصرار البعض على ضرب مفهوم التعددية الدينية وتقديمه في شكل عنصري يحض على الإقصاء. تبدو الصورة أكثر وضوحا في الدول العربية التي تشهد حضورا للتيار الإسلامي، المعلن والمستتر، وباختلاف أفكارهم وتوجهاتهم، سواء كانوا من التابعين لجماعة الإخوان، أو السلفيين بأطيافهم، إذ ظهرت ضغوط هؤلاء بقوة لفتح المساجد فقط. نجح هؤلاء في إقناع المجتمع بأن التديّن في المسجد فريضة، وأيّ جهة تحاول منع الناس من أداء هذه الفريضة وجب التمرد عليها، حتى انساق البعض وراء الأفكار التي اختصرت التعبّد في المكان المقدس، وتجاهلت أنه يجوز في أي مكان، طالما أنه علاقة خاصة بين الإنسان وربه. أصابت عدوى الخطاب المتطرف للإسلاميين حول مفهوم التدين بعض المنابر الكنسية، حيث عمدت أصوات في بعض القنوات التلفزيونية المسيحية بمصر، للضغط لتحقيق ذات الغرض، وهو فتح الكنائس مع اتخاذ إجراءات وقائية صارمة، وبدا أن كل فصيل يوظف الأزمة لمآربه. توظيف سياسي حمل بيان صحافي صادر عن وزارة الأوقاف المصرية قبل أيام العديد من الدلالات حيث تحدث عن إنفاق المليارات من الجنيهات في تأهيل المساجد لإعادة فتحها مرة أخرى، إذ لم تستطع الوقوف بوجه المعارضين لغلقها أكثر من ذلك، واتجهت إلى تخصيص مبالغ ضخمة لتحصين الراغبين في أداء الصلوات بحجة التعايش مع الوباء. رأى معارضون للخطوة أن المؤسسات الدينية قد تدفع فاتورة باهظة لتراخيها عن محاربة التدين الظاهري وعجزها عن مواجهة التيارات التي تستثمر الهوس الديني عند قطاعات في المجتمع، وإقناعها بأن الحشود التي تذهب إلى المساجد كل صلاة تعكس إسلامية الدولة، وباختفائها تنشط العلمانية. كان بإمكان وزارة الأوقاف توجيه الأموال التي خصصتها لفتح المساجد، رغم استمرار جائحة كورونا، إلى القطاع الطبي الذي يعاني نقصا في الإمكانيات باعتبار أن الأولوية في الإسلام إنقاذ الإنسانية من الهلاك، لكنها اختارت أسهل الطرق لإرضاء تيارات اعتادت توظيف المساجد في مآرب سياسية. في حين يهتم العالم بعودة حركة التجارة والسياحة والطيران وسوق العمل، كمدخل لتحصين البلدان من الفقر والدمار الاقتصادي، اختصر الإسلاميون ومن نجحوا في استمالتهم، إعادة الحياة إلى طبيعتها في فتح المساجد أمام الناس وصدّرت للعامة أن غلقها يزيد غضب الله. رأى كمال زاخر، الباحث والمفكر القبطي، أن الضغط على الحكومات لإعادة فتح المساجد ليست له علاقة بالتدين بل تدخل فيه حسابات سياسية ومصالح من الأصوات التي اعتادت توظيف الدين في خدمة أغراضها، وتستغل هذه التيارات ارتفاع نسبة الأمية الثقافية والتعليمية لتمرير أهدافها وزيادة وتيرة التحريض ضد الآخر، لأن هذه فرصة ثمينة لتثبيت قناعاتهم في أذهان العامة. وقال زاخر لـ”العرب”، إن تجاهل المطالبة بفتح دور العبادة عموما أو التعامل بهذا المصطلح في الشؤون الدينية يبدو متعمدا لإظهار أن الدولة إسلامية وهذا إرث ثقافي خاطئ شاركت في تكريسه حكومات متعاقبة ومنحت الفرصة للمتشددين في تنفيذ أجندتهم. الانتقائية في الحديث عن دور العبادة بالتركيز على المسجد وتجاهل الكنيسة ينبع من غياب المواطنة داخل المجتمع وهذه مسؤولية الحكومة في ضرورة تلاشيها فهي لم تتخذ إجراءات حاسمة ضد دعاة الفرز على أساس الدين الانتقائية في الحديث عن دور العبادة بالتركيز على المسجد وتجاهل الكنيسة ينبع من غياب المواطنة داخل المجتمع وهذه مسؤولية الحكومة في ضرورة تلاشيها فهي لم تتخذ إجراءات حاسمة ضد دعاة الفرز على أساس الدين عند وضع الدستور المصري كان يُفترض أن ينتج عنه قانون ينظم بناء دور العبادة بغض النظر عن هويتها إسلامية أم مسيحية، لكن تراجعت الحكومة آنذاك أمام ضغط التيار الإسلامي الذي امتعض من مساواة المسجد بالكنيسة. انعكست هذه الأفكار على هوية دور العبادة التي يُفترض أن يتم التركيز على فتحها رغم استمرار جائحة كورونا فالأغلبية تنادي بالمساجد دون اكتراث بأن الكنائس أيضا مغلقة، ويبرر أصحاب هذه الدعوات بأنه تصعب مقارنة المسجد بالكنيسة بذريعة النسبة والتناسب. يمثل المسلمون في دولة مثل مصر الأغلبية، بينما تمثل نسبة المواطنين المسيحيين نحو عشرة بالمئة من السكان البالغ عددهم نحو 104 ملايين نسمة. تصعب تبرئة المؤسسات الدينية من تهمة التراخي في عدم تثقيف وتنوير المجتمع بأن هناك مساواة في حقوق دور العبادة، والأكثر أنها لا تصدر للرأي العام رجال دين لديهم من التسامح ما يكفي لإقناع الناس بأن طروحات المتطرفين حول مسألة العبادة مطعون في صحتها. اعتبر زاخر أن محاولة تهميش الكنائس من جانب بعض التيارات المتطرفة فكريا يصعب فصلها عن فكرة الانتقام السياسي من الأقباط لمواقفهم الثابتة برفض هيمنة جماعات متشددة على مقاليد الأمور، لكن الحكومة غير مستعدة للدخول في معركة جانبية وسط اضطرابات إقليمية. رسخت بعض الدعوات السلفية فكرة أن عودتهم لممارسة الأعمال الخيرية ترتبط بإعادة فتح المساجد ونشاط الجمعيات الشرعية التي يجمعون من خلالها التبرعات ويعيدون توجيهها إلى المحتاجين، وهذه كانت ثغرة ينفذون منها لتعظيم نفوذهم الديني. صحيح أن وزارتي الأوقاف والتضامن الاجتماعي، وضعتا الجمعيات السلفية تحت رقابة، لكن المسجد نفسه يمثل منفذا للوصول إلى الناس، لزرع أفكارهم وتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية، حيث تُجرى انتخابات مجلس الشيوخ في أغسطس المقبل ومجلس النواب في نوفمبر. أكد نشأت زارع، كبير أئمة وزارة الأوقاف في مصر، أن المسجد يمثل للسلفي المدخل الوحيد للسيطرة على الناس وتغيير العقل الجمعي وضرب البنية الفكرية القائمة على التآخي والمساواة وحق الآخر في اعتناق أي عقيدة غير الإسلام، ولدى هذا التيار قناعة بأن الكنيسة عدو له. سيطرة على العقول يمكن رصد هذا الواقع بمجرد النبش في أسلوب الدعاء وقت الأزمات، فعندما طالب زارع على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بتغيير الصيغة من رفع البلاء عن العالمين بدلا من شفاء المسلمين فقط، انهالت عليه التعليقات التي قاربت تكفيره بينها من وصفه بالملحد الذي يتودد إلى المسيحيين. ظل الدعاء من على منابر المساجد بشفاء مرضى المسلمين ميراثا ثقافيا سيطر على عقول الأجيال المتعاقبة، وعن ذلك قال زارع “للأسف، زرعوا في أذهان الناس، أن التدين الصحيح، هو الكمي، بمعنى أن دين الدولة للأغلبية فقط، ما انعكس على استهداف الكنائس وتهميشها في المجتمع”. تأتي الأزمة من رحم المناهج التعليمية نفسها التي لم تعالج مثل هذه الأفكار، بل أسهمت في تكريس العنصرية ضد الأديان الأخرى، بالتخلي عن تقديم منهج وطني يربي الأجيال على القيم واحترام أصحاب العقائد ويقرب بين المذاهب، واكتفت الحكومة بأن تقوم المساجد والمؤسسات الدينية بهذا الدور. ولأن السيطرة الكاملة على المساجد من هيمنة السلفيين لم تتحقق بعد خاصة في المناطق الريفية والشعبية والحدودية، فإن الخطاب الديني الموجه إلى الأغلبية السكانية يحمل بين ثناياه أفكارا تحض على الكراهية والتمييز والعنصرية وتصوير الآخر على أنه يسعى لخلخلة القوام الإسلامي للدولة. أشار زارع، في تصريح لـ”العرب”، إلى أن الضغط على الحكومة لفتح المساجد مقابل تهميش وضع الكنائس، هو جزء من استراتيجية سلفية تقوم على إقناع الناس بأن المشروع الإسلامي هو الوحيد الذي يستطيع إنقاذ البلاد من الأزمات، وهي النبرة التي دفعت الإخوان إلى التآخي مع التيار السلفي لتمرير خطاب المظلومية. يرى مراقبون أن ما يعزز التوجه نحو متاجرة الإخوان والسلفيين بالدين هو أن الجماعة أعلنت دعمها لقيام السلطات التركية بغلق المساجد لظروف جائحة كورونا وحرّمت التمرد عليها، لكنها عارضت القرار في مصر واتهمت الحكومة بالتضييق على المسلمين إلى حين اتخاذ الكنائس قرارا بفتح أبوابها. الدعاء من على منابر المساجد بشفاء مرضى المسلمين ظل ميراثا ثقافيا سيطر على عقول الأجيال المتعاقبة الدعاء من على منابر المساجد بشفاء مرضى المسلمين ظل ميراثا ثقافيا سيطر على عقول الأجيال المتعاقبة لم تنكر دوائر قبطية امتعاضها من نبرة تسليط الضوء على المساجد، لكنها تدرك خطورة الدخول في معركة يتم توظيفها سياسيا والذهاب نحو القول إن الكنيسة افتعلت أزمة طائفية، كما أن إصرار الحكومة على فتح دور العبادة كاملة معا بعد اكتمال إجراءات الحماية أحبط مخطط الإسلاميين لصناعة نفوذ ديني لأنفسهم. لفت زاخر إلى أن “الخطاب المتشدد الذي يسعى لتوظيف الحس الديني في خلق حالة قلق واضطراب بين أصحاب الديانات يحاول استفزاز المسيحيين بشكل غير مباشر وجرهم إلى خلاف جانبي، لكن الكنيسة أكثر عقلانية، ولو وجدت هذه الأصوات تجاهلا من العامة لما تمادت في تكريس العنصرية الدينية”. لا يدرك أغلب المتعاطفين مع الإسلاميين أن اختصارهم وباء كورونا في استمرار غلق المساجد أو فتحها، محاولة لتقديم أنفسهم على أنهم الفصيل الأكثر حرصا على الدين، كما أنهم يريدون من وراء هذا التحرك تحقيق انتصار معنوي لاستثماره مستقبلا في تعظيم شعبيتهم، إذا ما قررت الدولة الاستجابة لهم أو لجزء من مطالبهم. يحاول هؤلاء منح المسجد سلطة استثنائية في العبادة لاستقطاب أكبر قدر من الناس لدعمهم ضد ما يصفونه بـ”التضييق الحكومي” على التقرب إلى الله، بحيث يكون الشارع أول من يرحب بعودتهم مرة أخرى إلى المشهد، باعتبارهم من حملوا القضية على عاتقهم. يصعب فصل المطالبة بإعادة فتح المساجد دون استخدام مصطلح “دور العبادة” عن غياب مفهوم المواطنة في أي بلد ما زال يسمح لجماعات إسلامية بالتواجد على الساحة ولو بطريقة غير مباشرة، واستثمار الهوس الديني لدى قطاعات من الناس لضرب أيّ اعتراف بوجود أكثر من عقيدة من حق أصحابها التعبد بحرية. ذكر أحمد كامل بحيري، الباحث المتخصص في الجماعات الإسلامية، أن الانتقائية في الحديث عن دور العبادة بالتركيز على المسجد وتجاهل الكنيسة ينبع من غياب المواطنة داخل المجتمع، وهذه مسؤولية الحكومة في ضرورة تلاشيها فهي لم تتخذ إجراءات حاسمة ضد دعاة الفرز على أساس الدين. في بعض الأحيان، تكون هناك قرارات رسمية يتم استغلالها للحض على التمييز الديني، وتعطي الفرصة للتيارات الإسلامية لاستعراض قوتها وترسيخ أفكارها، وتبرير نظرتها الدونية لأصحاب العقائد الأخرى، مثل اتجاه مجلس النواب لتخصيص كوتة (عدد محدد) لمقاعد الأقباط. أكد بحيري لـ”العرب”، أن المساواة بين أصحاب الديانات المختلفة في كل شيء تنعكس إيجابا على تلاحم الأديان ومعتنقيها وفرض المواطنة بالقوة يظل الحل الوحيد لوقف عبث رجال الدين في عقول الناس بمنح القدسية لعقيدة بعينها وتحقير أخرى، والأهم أن تكون هناك قاعدة عامة بأن الدولة ليس لها دين محدد، بل يحكمها دستور وقانون. وأضاف “إذا كان الدستور ينص على إسلامية الدولة فمن الطبيعي أن يكون ذلك مدخل التيارات المتطرفة للنفاذ إلى الناس بأسهل الطرق، فعندما تدعو إلى فتح مسجد مغلق فإنها بذلك تظهر عند المتعاطفين مع دينهم بصورة البطل الشعبي، وهذا تشويه متعمد لمفهوم التدين”. ينتقد تنويريون تخصيص برامج وقنوات لكل ديانة على حدة، فالأزهر له فضائية والكنيسة لها قنوات، في انعكاس واضح لمشاركة المؤسسات الدينية في التفريق بين الأديان ما منح الفرصة للمتطرفين على الجانبين للدفاع عن الحق في التعبد بطريقتهم الخاصة دون اكتراث بأن الإصرار على هذا التوجه لا يخدم سوى الأصوات التي تعادي التقارب بين العقائد.
مشاركة :