المتاجرون بالجنة يشيدون مساجد فائضة عن حاجة المجتمعات | أحمد حافظ | صحيفة العرب

  • 10/14/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تتنامى ظاهرة بناء المساجد في البلدان الإسلامية وتُرصد لها أموال طائلة، فيما تشح التبرعات للمستشفيات والمؤسسات التعليمية ومساعدة الفقراء والمحتاجين، ما يثير مخاوف من النفوذ الخفي لبعض دور العبادة ودورها المشبوه في نشر الأفكار المتشددة بين الناس. القاهرة - تتجسد اليوم مقولة الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم “من سرق المسجد” في كتابه الشهير “الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟” حيال التهافت السياسي والتجاري في بناء دور العبادة الفائضة عن حاجة المجتمعات الإسلامية، بينما لا يتم الالتفات إلى حاجة تلك المجتمعات لدور الرعاية والمدارس والمستشفيات والمتنزهات والنوادي الرياضية. وارتبط مفهوم الصدقة الجارية في أذهان عدد كبير من المسلمين، ببناء مسجد أو تخصيص قطعة أرض في موقع متميز للغرض نفسه، وهي قناعات رسخها أنصار تيارات متطرفة اعتادت التعامل مع المساجد باعتبارها الرمز الرئيسي للدين الإسلامي، بحجة أن كثرة أعدادها تعكس تدين أصحابها. ولم تعد الأزمة مقتصرة على الفكر الذي يروجه إسلاميون حول أن العمارة في الأرض وفعل الخيرات يقتصران على بناء المساجد، فالمشكلة الأكبر هي في تسرب نفس القناعات لإدارة المؤسسات الدينية المعنية بالإشراف على دور العبادة، حيث صار بعضها يسير على نفس المنوال، ويتباهى بزيادة المساجد كنوع من التعبير عن عظمة الإسلام. وقال مختار جمعة وزير الأوقاف المصري قبل أيام، إنه تم بناء ألف ومئتي مسجد خلال ست سنوات مضت، وتم تجديد أكثر من ثلاثة آلاف وستمئة آخرين، بتكلفة بلغت نحو ستة مليارات ونصف المليار جنيه، واستخدم الوزير الأرقام للترويج لإنجازات الحكومة في الملف الديني. وعند النظر إلى خلفيات التوسع في بناء المساجد كرمز للإسلام، يبدو جليا أن الظاهرة منتشرة في بلدان عربية كثيرة، وتروج لها مؤسسات دينية رسمية يُفترض أنها أول من يقف بالمرصاد في وجه التناقضات التي زرعتها تيارات متطرفة في أذهان الناس حول مفهوم التدين، وأولويات فعل الخير والتقرب إلى الله. وتكفي مطالعة الكثير من الكتابات لمفكرين ومثقفين في بلدان عربية عدة، لاكتشاف تنامي ظاهرة التباهي ببناء المساجد، على حساب التبرع للمستشفيات والمؤسسات التعليمية ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وكيف انتقلت عدوى اختصار التدين وحجز مكان بالجنة في بناء مسجد كبير أو صغير. قبل عامين، افتتح وزير الأوقاف الأردني عبدالناصر أبوالبصل مسجدا ضخما بتكلفة 800 ألف دينار في منطقة يعاني سكانها من الفقر وانخفاض مستوى المعيشة وحرمان أبنائها من التعليم والخدمات الصحية. ملامح بلا رتوش أحمد كريمة: التباهي ببناء دور العبادة يصب في صالح المتشددين أحمد كريمة: التباهي ببناء دور العبادة يصب في صالح المتشددين ويوجد في إحدى الطرق الرئيسية في ضواحي مصر، أكثر من لافتة مدون عليها “تبرع لاستكمال بناء المسجد”، والغريب أنه على بعد أمتار قليلة يوجد مسجد ضخم يؤدي فيه المسلمون الصلوات، لكن الناس نشأت على قناعة رسختها تيارات متطرفة، بأن “من بنى لله مسجدا في الدنيا بنى الله له بيتا في الجنة”. يعتقد كثيرون أن تحرر المجتمعات العربية من سيطرة المتشددين على أفكار الناس وإقصائهم من المشهد الديني والسياسي، سوف يغير الأفكار والخرافات القديمة حول مفهوم التدين، عندما تتحرك المؤسسات الدينية لإعادة إصلاح ما أفسده هؤلاء، لكن كيف يتم التعويل على هذه المؤسسات، وهي تكرس أفكار جماعات متطرفة اعتبرت أن كثرة المساجد أفضل دعاية للإسلام؟ ولم يسبق أن تبنى بحماس فصيل ديني من التيارات التي تتعمد التحدث باسم الإسلام، جمع تبرعات لبناء مستشفى خيري يخدم البسطاء، أو بنفس الهمة لإنشاء مدرسة والتكفل بتعليم شريحة من أبناء الفئات المهمشة، بل جعلوا الناس يقدسون التبرع للمسجد بالبناء والترميم والكسوة، وبنفس المنطق تعاملت وزارات الأوقاف مع الأمر، وأسهمت بشكل غير مباشر في تكريس هذه الأفكار بأذهان الناس. وتتحجج وزارة الأوقاف في مصر مثلا، بأنها تبني المئات من المساجد وترمم أخرى، بأموال الوقف التي تركها أصحابها لاستخدامها في أعمال الخير والصدقات الجارية، لكنها لم تذكر أن أحد الذين تبرعوا بقطعة أرض أو منزل للوقف الخيري اشترط بعد وفاته بناء مسجد، وهو ما يطرح التساؤل: لماذا اختارت الوزارة أن تخصص أوقاف الخيّرين للمساجد فقط؟ وأكد أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، في حديث لـ”العرب”، أن الذين تبرعوا بأموالهم وأراضيهم منذ مئات السنين لوزارة الأوقاف، تركوها لاستغلالها في بناء مدارس ومستشفيات ومصانع تخدم المجتمع، بحكم أن الدين يرى في العمل الخيري الذي يستهدف الناس مباشرة أفضل بكثير من بناء دور عبادة، لكن هناك مؤسسات رسمية اختزلت الإسلام في المسجد، كما يفعل السلفيون. ويرى متابعون أن ترويج المؤسسات الدينية في أي بلد لأفكار المتشددين، يفضي إلى تكريس التدين الظاهري الذي يصدر صورة سيئة عن الإسلام. فالدين لا يحتاج إلى استعراض قوة من جهة رسمية أو تيارات محسوبة عليه تعتبر كثرة المساجد انعكاسا لنفوذ العقيدة، في حين أن الدين يرى إنقاذ الإنسانية أهم وأولى من كثرة عدد المساجد. و لم تقتنع المؤسسات المعنية بإدارة ملف المساجد في دول عربية كثيرة، أن المتشددين الذين يسعون لاختصار العمل الخيري في بناء وترميم المساجد، هم بالأساس يخدمون أغراضهم السياسية المشبوهة، حتى يظهروا أمام الناس في صورة المدافعين عن الإسلام أمام تمدد ما يوصف بـ”العلمانية والتحرر والتصدي للأفكار الدخيلة”. ومشكلة هذه الجهات أنها أيضا لديها أجندة سياسية تقف وراء التوسع في بناء المساجد بشكل مبالغ فيه، بحيث تظهر الحكومة أمام معارضيها من المتشددين بأنها ليست “ملحدة أو كافرة” كما يعتقد البعض، بل أكثر تدينا من الإسلاميين أنفسهم، بدليل أنها أنشأت المئات من المساجد في وقت قياسي، وبمبالغ مالية ضخمة. ولم تعلن وزارة الأوقاف المصرية عن عدد المساجد التي أنشأتها الحكومة خلال عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، إلا بعد الهجمة الشرسة التي شنتها جماعة الإخوان ومنابرها الإعلامية التي تبث من تركيا وقطر، بالتزامن مع قرار هدم دور العبادة المخالفة لاشتراطات البناء، وحينها قال إخوان وسلفيون إن الحكومة المصرية تعادي الدين الإسلامي بإزالة المساجد. الدين لا يحتاج إلى استعراض قوة من جهة رسمية أو تيارات محسوبة عليه تعتبر كثرة المساجد انعكاسا لنفوذ العقيدة الدين لا يحتاج إلى استعراض قوة من جهة رسمية أو تيارات محسوبة عليه تعتبر كثرة المساجد انعكاسا لنفوذ العقيدة وقال كريمة إن المواءمات السياسية بين بعض الحكومات العربية والإسلاميين، كرست التوسع في بناء المساجد بشكل مضطرد، دون أن تكون هناك وقفة لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي يزرعها المتطرفون في أذهان الناس، وإن تبنّي جهات رسمية للقناعات السلفية بشكل غير مقصود يساعد على الترويج للتدين السطحي بشكل يضر بصورة الإسلام. واعتبر أن التباهي ببناء المئات من المساجد في ظل الحاجة الملحة لتأسيس مدارس ومستشفيات وتقديم مساعدات للفقراء يصب في صالح المتشددين الذين يستخدمون هذا التوجه للترويج لأفكارهم التي فرّغت الدين من مضمونه، واقتصرته في التعبد في المسجد فقط، واستمرار هذه الخرافات يعرقل أي محاولة لتجديد الخطاب الديني. وما يبرهن على أن توظيف المساجد في أغراض سياسية صار من أخطر الظواهر الدينية، أن الأنظمة الداعمة للتيارات المتطرفة تستخدمها كقوة ناعمة لإضفاء شرعية على توسعاتها، فقد تجد بعض الحكومات العربية تخصص مبالغ طائلة لبناء مساجد في دول أوروبية وآسيوية وأفريقية للإيحاء بأنها حامية للدين. وجد البعض في المساجد الطريق المختصر لاستمالة مسلمي بعض البلدان لدعم سياساتهم خارج الحدود الجغرافية، ما يمكن متشددين من السيطرة على عقول الناس بشكل منظم، بحيث يظهرون أمام المجتمع في صورة الفصيل الديني الأكثر حرصا على الإسلام، ولا ضرر طالما يؤسسون المساجد ويعمرون الأرض بها. ويرى الباحث المتخصص في شؤون الإسلام السياسي سامح عيد، أن التوسع في دور العبادة الإسلامية بهذا الشكل المريب، إرث سلفي إخواني تجاهد أنظمة متطرفة، مثل تركيا وقطر، لتكريسه في أذهان الناس، لأن المسجد بالنسبة لهم المدخل الوحيد تقريبا للسيطرة على المجتمع وضرب بنيته الإنسانية القائمة على حرية العقيدة. اختزال وتناقضات دينية لفت عيد في حديث لـ”العرب” إلى أن التنافس في بناء المساجد يضر بصورة الدين نفسه، فإنسانية الإسلام وسماحته لا تكون ببناء أكثر من مسجد في منطقة واحدة ولا توجد بها سيارة إسعاف قد تنقذ العشرات من الموت المفاجئ، ولا بشراء أجهزة تكييف لراحة المصلين، وهناك أسر لا تجد طعاما لأولادها أمام زيادة معدلات الفقر. وإذا كان الناس على مدى عصور مضت وقعوا في براثن تيارات اختزلت التدين والعمل الخيري في التبرع لبناء مسجد، فدور المؤسسة الدينية أن تتحرك لتفكيك هذه الأفكار، لا الترويج لها من خلال التعامل مع مضاعفة أعداد دور العبادة، على أنها إنجازات حكومية، لأن السلفي أيضا سوف يتحدث بذات النبرة، ويتمادى في جمع التبرعات من راغبي الجنة بأموالهم في الدنيا. ولا يمانع كثيرون أن يتم بناء مساجد جديدة شريطة أن يكون وجودها مطلوبا لأداء العبادات، وبمساحات معقولة تقضي الغرض لا أكثر، مع استغلال فراغاتها لإنشاء مركز تعليمي أو طبي لتكون هناك فائدة أكبر للمجتمع. لكن المشكلة في بعض البلدان التي ينتشر فيها الفكر السلفي، أن المساجد غالبا ما تكون على مساحات شاسعة وقد لا يصلي فيها سوى بضعة أفراد، فالمهم أنها ترمز أو توحي بمدى تدين أهل هذا البلد. سامح عيد: طفرة بناء المساجد تعكس إرثا سلفيا تحاول أنظمة متطرفة تكريسه سامح عيد: طفرة بناء المساجد تعكس إرثا سلفيا تحاول أنظمة متطرفة تكريسه وأصبح هناك تنافس بين الراغبين في بناء المساجد في طريقة التشييد والزخرفة والطراز المعماري، فتجد إحدى العائلات تتمسك بأن يكون مسجدها أفخم من مسجد عائلة أخرى. وإذا ما تم البحث في الخلفيات سنجد أن هذه الثقافة انتقلت إلى الناس من المساجد التابعة للإسلاميين باختلاف توجهاتهم، فمساجد السلفيين تنافس نظيرتها الصوفية. وحتى المساجد التي تبنيها وزارات الأوقاف تكون أحيانا أقرب إلى القصور، من حيث الفخامة والعراقة والمساحة، ويتم إنفاق أموال ضخمة عليها، بالتالي فالناس لن يجدوا القدوة الحسنة من المؤسسات الرسمية أو حتى التيارات الدينية المختلفة، ليتعاملوا مع فكرة بناء المساجد بنوع من العقلانية والرُشد. وتصعب تبرئة رجال الدين الذين يتصدرون المشهد من تعامل الناس مع بناء المساجد باعتباره العمل الخيري الأكثر قدسية، فلم تخرج قيادة رسمية لتوعية المجتمع بأن الإسلام لم يدع لتعددية دور العبادة بهذا الشكل، خشية التعرض لاتهامات قد تصل حد التكفير من جانب المتدينين بالفطرة أو أنصار التيارات المتشددة. ولم تخصص وزارات الأوقاف خطبة الجمعة مثلا لترشيد بناء المساجد لتقتصر على الأماكن الأكثر احتياجا فقط، وآثرت أن تنسحب من المشهد وتترك المهمة لبعض كتاب الرأي والمثقفين ليتبنوا دعوات من هذا النوع، لكن الناس بحاجة إلى قامة موثوق فيها دينيا لتخاطب المجتمع بالأدلة والأسانيد بأن الجنة ليست حكرا على مؤسسي المساجد وحدهم. وتبدو المؤسسات الدينية الموثوق في توجهاتها لدى أغلب المسلمين، مثل الأزهر ودور الإفتاء، من صنعت لدى الناس معتقد أن المسجد بوابة العبور إلى الجنة، وسهلت المهمة على المتشددين، فلم يجدوا أدنى معاناة للسيطرة على عقول الناس ودفعهم إلى التبرع ليل نهار من أجل التوسع في دور العبادة، ثم يضعون أيديهم عليها بعد ذلك. وقد تؤدي فتوى واحدة من مؤسسة دينية مشهود لها بالمصداقية، لتوقف اختزال الناس الأعمال الخيرية والصدقات في المساجد، لكن الجرأة غير موجودة، والقدرة على مواجهة المتطرفين شبه منعدمة، وكل جهة تنأى عن الدخول في معركة غير محسوبة، خشية أن تتهم بأنها تتحدث بلسان السلطة، مع أن الدين بحاجة ماسة لهذه المواجهة. وبغض النظر عن توقيت تحلّي إدارة المؤسسات الدينية بالجرأة لفتح هذا الملف الشائك، فإن وجود إرادة سياسية لترشيد بناء المساجد صار أمرا حتميا، لأن التعويل على رجال الدين ضياع للوقت والمال وإهدار للاستثمار الخيري، لكن الأهم أن تتوقف بعض الحكومات عن التعامل مع بناء المساجد على أنه إنجاز سياسي ويعكس هيبتها وعظمتها ويضفي مسحة دينية على شرعيتها.

مشاركة :