ألبير كامو وماريا كازاريس حب أججت ناره الرسائل | محمد الحمامصي | صحيفة العرب

  • 6/17/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ما تكشفه الرسائل بين المبدعين أكثر وضوحا مما يكشفه إبداعهم، وخاصة إن كانت الرسائل بين مبدعين عاشقين، حيث نكون بصدد عمل فني ثنائي مادته اللغة ولكن عمقه مفتوح على كل أصناف الأدب والفنون والخيال والواقع، كتابة مشحونة بروحين متحدتين، وهو ما نراه في رسائل الروائي والمفكر الفرنسي ألبير كامو والممثلة المسرحية الإسبانية ماريا كازاريس. التقى ألبير كامو بماريا كازاريس عند ميشيل وزيت ليريس أثناء عرض قرائي لمسرحية “الرغبة ممسوكة من ذيلها” لبابلو بيكاسو في 19 مارس 1944. حيث اقترح كامو على الممثلة الشابة، والطالبة السابقة في معهد الدراسات المسرحية بموجب عقد في مسرح ماتوران، أنْ تؤدي دور مارتا في مسرحيته “سوء تفاهم”. بعد ذلك تبدأ البروفات ويقع كامو في حب الممثلة، هذا الحب الذي ظل متقدا على مدار 12 عاما وكان من نتاجه هذه المراسلات التي أعدتها بياتريس فايان وقدمتها ابنته كاترين كامو، وترجمها المترجم لطفي السيد منصور. وتشكل باقة من الحب والجمال المتوهج، وقد استطاع المترجم أن ينقلها بلغة شفيفة، وقد صدرت بعنوان “مراسلات ألبير كامو وماريا كازاريس..1944-1959” عن دار مفرد للترجمة والنشر. التقاء في المسرح كانت الشابة ماريا كازاريس، ابنة الرئيس السابق للجمهورية الإسبانية الثانية، منفية في باريس مع والدتها منذ عام 1936، حين التقاها كامو كانت لا تزال تدرس في معهد الكونسرفاتوار، ثم قام الممثلان مارسيل هيران (1897-1953) وجان مارشا (1902-1966) بإدارة مسرح ماتوران بتوظيفها لمدة عام بدأ في 1 أكتوبر 1942. وهكذا بدأت، مع النجاح، حياتها المهنية المميزة كممثلة تراجيدية في عامها العشرين، مع دور البطولة في “آلام ديردري” لجون ميلينجتون سينج (1942). ولاحظ الجميع أداءها وبشكل خاص كامو، الذي حضر في عام 1943 أحد العروض. ونراها بعد ذلك في “شيخ البنائين” لهنريك إبسن (1943) و”رحلة تيزيه” لجورج نيفو (1943). ثم، من 24 يونيو 1944، تؤدي دور مارتافي مسرحية ألبير كامو “سوء تفاهم” للمخرج مارسيل هيران. في ليلة 6 يونيو 1944، وبعد أمسية مع المخرج شارل دولانو في اليوم نفسه الذي هبط فيه جنود الحلفاء في نورماندي، أصبح كامو ومارتا عاشقين. فكامو منذ أكتوبر 1942 يعيش بمفرده بباريس بينما زوجته فرانسين، المولودة في فور، المعلمة في وهران، لم تتمكن من الانضمام إليه، بعد احتلال الألمان للمنطقة الجنوبية. رسائل كازاريس كانت مشحونة أما رسائل كامو فمقتضبة للغاية، لكنها تعكس نفس حبه إلى الحياة، وشغفه بالمسرح تقول كاترين كامو في توطئتها للمراسلات “التقت ماريا كازاريس ألبير كامو في باريس في 6 يونيو 1944، يوم إنزال الحلفاء قواتهم على شواطئ النورماندي، هي في عامها الواحد والعشرين، بينما هو في عامه الثلاثين. ماريا، التي ولدت في لاكورونيا في إسبانيا، كانت قد وصلت إلى باريس في سن الرابعة عشرة، في عام 1936، مثل معظم الجمهوريين الإسبان، ووالدها، سانتياجو كازاريس كيروجا، الذي تقلَّد منصب الوزير لعدة مرات ورئيسا لحكومة الجمهورية الإسبانية الثانية، أُكره على المنفى عندما تولى فرانكو السلطة، وبعد فترة طويلة، ستصرح ماريا كازاريس بأنَّها ‘ولدت في نوفمبر 1942 في مسرح ماتوران‘”. وتضيف كاترين كامو أن أباها شارك في المقاومة، بينما كان يباعد الاحتلال الألماني بينه وبين زوجته فرانسين فور، بأصله الإسباني لوالدته، وإصابته بمرض السل كما سانتياجو كازاريس كيروجا، كان هو أيضا منفيّا لأنَّه نشأ في الجزائر، وفي أكتوبر 1944، حيث استطاعت فرانسين فور الالتحاق بزوجها، تنفصل ماريا كازاريس وألبير كامو، ولكن في 6 يونيو 1948، بينما يعبران جادة سان جيرمان، التقيا ولم يتركا بعضهما بعضًا مرة أخرى. سلك الحب تُظهر هذه المراسلات، التي لم تنقطع لمدة اثني عشر عاما، طابع حبهما الجامح بوضوح: “التقينا، تعرفنا على بعضنا بعضا، استسلم كل منا إلى الآخر، فزنا بحب متأجج شديد من البلور الخالص، أتدرك سعادتنا وذاك الذي منحنا إياه؟” كما كتبت ماريا كازاريس 4 يونيو 1950.وفي 23 فبراير 1950 كتب لها كامو “واضحان، ويقظان بالقدر ذاته، وقادران على فهم كل شيء ومِن ثَمَّ قادران على التغلب على كل شيء، قويان بما يكفي للعيش دون أوهام، ويرتبطان بعضهما ببعض، بروابط الأرض، الذكاء والقلب والجسد، لا شيء يمكنه، وأنا أعلم ذلك، أن يباغتنا أو يباعد بيننا”. في يناير 1960، يباعد بينهما الموت، ولكنهما كانا قد عاشا 12 سنة “شفافين بعضهما إزاء بعض”، متضامنين، شغوفين، بعيدين جدّا في غالب الأحيان، ويعيشان بشكل كامل، معًا، كل يوم، كل ساعة من خلال واقع قليل من الكائنات تستطيع تحمله. وترى كاترين أنه عبر رسائل ماريا كازاريس نكتشف حياة ممثلة عظيمة، كما نتعرف على مواقفها الشجاعة وإخفاقاتها وجدول مواعيدها المجنون والتسجيلات الإذاعية والبروفات والعروض المسرحية بتقلباتها وتصوير أفلامها، كما تكشف لنا عن حياة الممثلين في مسرح الكوميدي – فرانسيز والمسرح الشعبي الوطني (TNP). لقد مثلت كازاريس إلى جانب ميشيل بوكيه، وجيرار فيليب، ومارسيل هيران، وسيرج ريجياني وجان فيلار، وأحبتهم. رسائل متبادلة مفعمة بالحب رسائل متبادلة مفعمة بالحب ولأنَّها مولودة في منطقة جاليسيا، كانت ماريا الممثلة تشعر بالمحيط كأحد مكوناتها: فهي مثله، تتدفق، تنكسر، تنكفئ على نفسها، وتنطلق ثانية بحيوية مذهلة، تعيش السعادة والتعاسة بالكثافة نفسها، وتستسلم لذلك بعمق. إن نفس هذه الطريقة في الحياة موجودة حتى في هجائها. أما رسائل ألبير كامو فهي مقتضبة للغاية، لكنها تعكس نفس حبه إلى الحياة، وشغفه بالمسرح، واهتمامه الدائم بالممثلين وهشاشتهم. كما أنَّها تستحضر المواضيع العزيزة عليه، مهنة الكاتب وشكوكه، والعمل الشاق في الكتابة، على الرَّغم من إصابته بمرض السل، يتحدث إلى ماريا عمَّا كتبه: مقدمة “الوجه والظهر”، “الإنسان المتمرد”، “موضوعات راهنة”، “المنفى والملكوت”، “السَّقطة”، “الإنسانُ الأوّل”، ومع ذلك لم يشعر أبدا بأنَّه “على المستوى”. إنَّها تطمئنه بلا كلل، تؤمن به، بأعماله، ليس بشكل أعمى، ولكن لأنَّها، كامرأة، تعلم أنَّ الإبداعَ هو الأقوى، وهي تعرف كيف تقول ذلك، بإخلاص واقتناع حقيقي. كتب إليها في 23 فبراير 1950 “ما يفعله كل منا في عمله، حياته، وما إلى ذلك، لا يفعله بمفرده. الوجود الوحيد الذي يشعر به هو الرفقة. هذا لن يُنكر أبدا”. وتتساءل كاترين: كيف استطاع هذان الكائنان اجتياز سنوات عديدة، في ظل التوتر الشاق الذي تطلبه حياة حرة يخففها احترام الآخرين، التي فيها “كان عليه أنْ يتعلم السير على سلك الحب المشدود الخالي من أي كبرياء، دون أن يتخلى أحدهما عن الآخر، ودون أن يتشكك أيٌّ منهما في الآخر، مع مطلب الوضوح نفسه؟.. وتقول إن الإجابة في هذه المراسلات التي يتكشف فيها عمق صدق حبهما. توفي كامو 4 يناير 1960، وفي أغسطس 1959، وكما تشير كاترين “يبدو أنَّه تمكن من السير على هذا السلك، دون فشل، حتى النهاية. تكتب مارتا: “يبدو أنه من المفيد أنْ أُلقي النظر على الارتباك البشع لمشهدي الداخلي. إنَّ مَا يزعجني أَنني لن أجد أبدا وقتَ الفراغ، الفطنة، وقوة الشخصية الضرورية لوضع قليل من النظام في هذا الداخل وأنا آسفة على اعتقادي أنني سأموت قطعا كما ولدت، دون ملامح”. يرد عليها “كبديل لعدم الملامح، سيكون من الضروري أنْ تموتي غامضة في نفسك، ومشتتة. ولكن ربما يكون أيضا الوحدة المتحققة، والوضوح الرصين للحقيقة، الموت نفسه، ولكي يشعر المرء بقلبه، يحتاج إلى الغموض، والوجود المبهم، والنداء المتواصل، والنضال ضد نفسه والآخرين، سيكون كافيا عندئذ معرفة ذلك، وعشق الغموض والتناقض بصمت- بشرط وحيد وهو عدم توقف النضال والسعي”. وتختم كاترين توطئتها بتوجيه الشكر لكامو ومارتا “لقد جعلت رسائلهما الأرض أكثر رحابة، والفضاء أكثر إشراقا، والهواء أكثر خفة، ببساطة؛ لأنهما وُجِدَا”. ShareWhatsAppTwitterFacebook

مشاركة :