هل سيتغير العالم بعد الجائحة | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 6/18/2020
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

لا أحد يدري متى ستنتهي الجائحة، ولكن الأسئلة التي تثار من الآن عن آثارها تكاد تختصر في سؤالين عريضين هما: أولا، هل تعلن الجائحة انتصار الحكومات المتسلطة على الحريات الفردية؟ ثانيا، هل يدخل العالم بغير رجعة في حركة شاملة لإنهاء العولمة؟ تواترت المؤلفات التي تندد بالحجر الصحي، أو تحلل آثاره على مستوى الفرد والجماعة، أو تستشرف ما سوف يبقى وما سوف يزول. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف يمكن أن نتكهّن في أوج الأزمة بما سيكون عليه العالم؟ البلغاري إيفان كراستيف رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية بصوفيا لم يتردد منذ شهر مارس الماضي في تصور الآثار السياسية في العالم بعامة وأوروبا بخاصة، انطلاقا من عزلته الإجبارية في إحدى قرى بلغاريا. مقاربات فكرية كتاب إيفان كراستيف “أهو الغد بعد؟ العالم المفارق لما بعد كوفيد – 19” هو حدث عالمي، فقد صدر في أربع عشرة لغة حيّة في الوقت نفسه، نظرا لسمعة صاحبه الذي يعدّ من خيرة الباحثين في العلوم السياسية في العالم، ولكونه لا يكتفي بالاستناد إلى التحاليل الإيطالية والفرنسية والأنكلوسكسونية، بل اعتمد على قراءته الخاصة ليؤكد أن آثار الجائحة ليست بالخطورة هي التي نتصور. وفي رأيه أن الخطر الأكبر هو أن نتوسل بأدوات الماضي القريب، عند تناول مكافحة الإرهاب، أو الأزمة المالية لعام 2008، أو أزمة المهاجرين لعام 2015 لفهم ما يجري. يلاحظ كراستيف أن هذه الأزمة، بعكس الأزمتين السابقتين، لها قدرة على تغيير العالم الذي نعرفه، وأنها لا تولّد القلق فقط وإنما الخوف أيضا، فالناس حيثما كانوا لا يخشون أن يعيشوا في عالم لم يعهدوه، بل هم خائفون من العدوى ومن الموت. وهذا الخوف يمكن أن يغير أنماط عيش البشر، ولو بصورة يختلف فيها بعضهم عن بعض في مواجهة الخوف، كالقبول بما تقرره الدولة دون نقاش. الدولة ستتحكم في مصير الشعوب الدولة ستتحكم في مصير الشعوب ولئن توقع بعض المفكرين، من اليسار خاصة، بأن الدولة ستعود لفرض حضورها، تماما كما حصل عقب الانهيار الأكبر عام 1929، حين تخيلوا أن تكون الدولة أكثر اهتماما بالنواحي الاجتماعية والتضامنية، فإن عودتها اليوم يرجع الفضل فيها إلى سياسة الخوف. فالناس لم يكتفوا بالتنازل للدولة ببعض حقوقهم، بل عبروا عن اعترافهم بجميلها حين حرمتهم من تلك الحقوق والحريات. فالآخر، الغامض، هو العدوّ، ما ولّد وضعا مفارقا، إذ صار التباعد الاجتماعي شكلا من أشكال التضامن. نساعد الآخرين بتجنبهم والكفّ عن لمسهم ومصافحتهم ولقائهم. المفارقة الأخرى أن الجائحة شاملة بينما إجراءات مقاومتها محلية صرف، كما أن الدول بادرت بإغلاق حدودها، والحال أن الفايروس لا يعترف بحدود، وكأنها تريد أن تثبت لشعوبها أنها بصدد القيام بشيء ما، وأن هذا الشيء له جدواه. ولكن الحدود التي أُغلقت أمام الأشخاص والأشياء عَلّقت أيضا القواعد والمعايير مثلما علّقت الديمقراطية. حتى رأس المال وجد نفسه معلّقا، فالدولة باتت تحشر نفسها كما لم تفعل من قبل في الآليات التي تنظم الأسواق، بمباركة كبار رؤوس الأموال. يقول كراستيف “نعيش اليوم في نظام سياسي واجتماعي شديد الاختلاف عمّا كنّا نعتبره حتى وقت قريب "عاديّتنا"”. ويتساءل ما إذا كانت هذه التجربة ستزيد تحصين الشعوب من بعض الممارسات التسلطية، أو أنها ستجعلها أكثر قبولا، وهو السؤال الأهم اليوم في اعتقاده. ولا يكتفي كراستيف بتوصيف الوضع الصحي والاقتصادي عالميا، بل يطرح قضية تشغل بال كل الحكام في العالم: كيف السبيل إلى إيجاد توازن بين إعادة تنشيط الاقتصاد وبين رغبة إنقاذ ما أمكن إنقاذه من حياة البشر؟ وفي رأيه أن هذه القرينة ذات الحدين تتخذ أشكالا مختلفة بحسب الموقع من العالم نظرا إلى تباين الأوضاع الاقتصادية والديموغرافية في هذا البلد أو ذاك. ففي جنوب أفريقيا مثلا حيث 6 في المئة من مجموع السكان يتجاوزون سن الستين، يمثل توقف الاقتصاد خطرا أشدّ فتكا من الجائحة. والثابت أن هذه الأزمة التي بدأت صحية، ما فتئت عواقبها الاقتصادية تتبدى شيئا فشيئا. ولئن استطاعت معظم الحكومات أن تتخذ قرارات صارمة وإقناع شعوبها بصواب تلك القرارات وأهميتها، فهي مدعوة إلى التعامل بعد انجلاء الجائحة مع عالم الأعمال من جهة، وعالم العمال الذين فقدوا أو يخشون فقدان عملهم من جهة أخرى. إيقاف العولمة ردّ الاعتبار للدولة ليس بمعزل عن ردّ الاعتبار للخبراء ردّ الاعتبار للدولة ليس بمعزل عن ردّ الاعتبار للخبراء أما عن تصوره للمرحلة القادمة، وما شاع من تنبؤات بأن العالم لن يكون أبدا هو نفسه بعد الجائحة، فهي تكهنات سبق أن قيلت منذ بداية القرن الواحد والعشرين، بعد 11 سبتمبر، وبعد الأزمة المالية، وبعد أزمة المهاجرين، ولكنها ستصدق هذه المرة، والسبب في رأيه أننا جميعا كنا لا نتصور أن نعيش في عالم آخر، وإذا نحن في غضون بضعة أسابيع نعيش في عالم مختلف تمام الاختلاف عن العالم الذي عرفناه. عالم تقلصت فيه انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بشكل ملحوظ، واختفت من أجوائه الطائرات، وألغيت الانتخابات، وهذا ما لم نكن نتخيّله إطلاقا لانشدادنا الروتيني إلى معيشنا اليومي. وفي اعتقاده أن هذه الأزمة أكثر راديكالية من سابقاتها لأنها سحقت رتابتنا اليومية، وأجبرتنا في وجه من الوجوه على التطلع من جديد إلى المستقبل، فقد كان الناس قبل الجائحة، لاسيما في أوروبا، يتأسفون على ماضيهم أكثر مما يفكرون في غدهم، وهذا يشهد اليوم تغييرا عميقا، فقد أجبرتنا الأزمة على تصور مستقبلنا بوضع الأسئلة الحيوية التي حرصنا على تجنّبها حتى الآن. ما تغير أيضا نظرة العالم إلى الخبراء. بعد أزمة 2008، تألب عليهم جميع المحللين، وعزوا إليهم وشك انهيار الاقتصاد العالمي، واليوم، وقد صارت أرواح الناس في خطر، تغير كل شيء، فقد أدركوا أهمية الخبراء كلٌّ في مجال اختصاصه، وبعد أن كانوا يبحثون عن الأخبار المسلية في المواقع الاجتماعية، عادوا إلى وسائل الإعلام الكلاسيكية كالصحف والراديو والتلفزيون لتبين المصادر، ومعرفة آراء الخبراء الذين قضوا أعمارهم في دراسة الفايروسات، وأدركوا أهمية الطواقم الطبية في إنقاذ البشرية. وفي رأي كراستيف أن ردّ الاعتبار للدولة ليس بمعزل عن ردّ الاعتبار للخبراء، لأن الدولة هي التي تملك احتكار الخبرة. ولعل أهمّ ما جاء في الكتاب نظرة مؤلفه إلى عواقب الأزمة على مستوى العلاقات الدولية والمبادلات التجارية، ومستقبل الديمقراطية في أوروبا، فهو يعتقد أن مواجهة عدوّ خفيّ عن طريق إعادة تأميم الاقتصاد وغلق الحدود تسير نحو وضع حدّ للعولمة بوجهها المعروف. ولكن ذلك لا يعني أنها علامة على انتصار القوى الشمولية كالصين والحركات الشعبوية في أوروبا. فالصين لا تُحسَد على وضعها، ليس لأنها كشفت عن وجهها المظلم، القائم على كذب الدولة والبروباغندا العدوانية، وإنما لكونها سوف تعاني من تراجع العولمة الذي ستفرضه الجائحة. أما عن آثار هذه الأزمة على الديمقراطية، فلئن سارع بعض الملاحظين إلى توقع زوال الحلم المشترك انطلاقا من معاينة تشتت جهود الأوروبيين في مواجهة الفايروس، فإن كراستيف يتوقع أن يفهم الأوروبيون عمّا قريب أن الحماية الوحيدة التي يتمتعون بها هي الحمائية الخاصة التي يمنحها إياهم تجمّعهم مع بقية القارة، وأن الحركة الشعبوية القومية التسلطية التي تجتاح أوروبا منذ بضع سنوات سوف يقع إيقافها وحتى قلبها رأسا على عقب، بفضل “هذا المرض الذي فرض علينا جميعا اللجوء إلى ديارنا” كما قال.

مشاركة :