هل يعزّز المرض رغبتنا في الحياة؟ | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 10/4/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

من الأسئلة التي شغلت الفلسفة الحديثة محنة السالب بالمفهوم الهيغلي، شرّا كان أم ألما أم مرضا أم موتا، هل يمكن أن ينمّي نهمنا في الحياة؟ هل تغدو الحياة أغلى حين نمرّ بأزمة تجعلنا نخشى فقدانها؟ وهل نخرج من المحنة أقوياء؟ وبالأخص هل يمكن أن يتولّد عن الشرّ خير؟ في "رسالة إلى ميناقايوس"، قال أبيقور "يجب ألّا نخشى الموت لأننا لا نصادفه أبدا، فعندما نكون موجودين، لا يحضر الموت. وعندما يحضر، فذلك يعني أننا لم نعد موجودين، فالموت إذن لا يعني الأحياء ولا الأموات". ولكن الموت، موتنا أو موت أقربائنا وأحبابنا، يظل مبعث خوف. ورأي أبيقور، على ما فيه من حكمة ودعوة إلى التمتع بالحياة حتى الرمق الأخير، لا يُبعد شبحه، بل يدعونا إلى القبول بأن الشرّ كائن، كامن في الحياة كمون النار في الحجر، وأن تجنب النظر إلى السالب، والبحث عن السعادة في الموجب دون خلط، قد يجرّان الإنسان إلى مجانبة الحياة الحقّ، بحلوها ومرّها. الفلسفة القديمة لم تهتمّ فلسفة العصور القديمة بمسألة الشّرّ إلّا من زاوية اتصالها بالحوادث والسلوكيات والحالات المؤذية أو المدمّرة أو اللاأخلاقية التي هي مصدر آلام نفسية وجسدية، ولا بدّ من العودة إلى كتاب “الأعمال والأيام” التي روى فيها هسيودوس (وهو شاعر إغريقي يعتقد المؤرخون أنه عاش بين 750 و650 قبل الميلاد، أي في زمن هوميروس تقريبا) أسطورة بانْدورا، كي نعثر على تفسير ميثولوجي للشرّ، إذ يروي أنها خُلقت بأمر من زيوس لكي ينتقم بواسطتها من البشر بعد أن تجرأ بروميثيوس على سرقة النار المقدّسة. الرومانسية خروج عن الألَميّة المسيحية وعن العقلانية أيضا، فراج التغني بالمشاعر والتحام الأنا بالطبيعة في احتفالية شاملة لقد كان الشّرّ عند الفلاسفة القدامى مجرّد رأي أو شعور ينبغي التخلص منه، أو عبارة عن مسائل مادية دنيوية لا علاقة لها بالآلهة كما ذهب أرسطو، ثمّ صار قضية فلسفية مع أتباع النظرية الثَنوية، (وهو مذهب يقول إن الكون خاضع لمبدأين متعارضين هما الخير والشرّ) وخاصة أفلوطين، والنظرية المانوية (القائلة بالصراع بين النور والظلام)، قبل ظهور ديانات التوحيد التي لخصت المسألة في كونها كل ما يكابده الإنسان بعد نزوله إلى الأرض وسعيه لنيل رضا الخالق ومغفرته. تقرّ ديانات التوحيد بوجود الشرّ والعذاب، ولكنها تضعهما على عاتق الإنسان وحده، لأن الله جلّ أن يضمر السوء لخلقه، وتعالى عن أن يبتدع الشرّ، إنما الشرّ موجود في ذاته، حسب الفقهاء، فلا كيان له عدا أنّه حرمان من الخير. ومع ظهور فكر الأنوار وتراجع التفكير الكنسي في نهاية القرن التاسع عشر، عادت مسألة الشرّ تشغل الفلاسفة، وإن انحصرت في سؤالين: معرفة ماهيته، ومعرفة سبب وجوده. بين هيغل ونيتشه في نهاية عصر الأنوار، شكّلت الرومانسية خروجا عن الألَميّة المسيحية (مذهب الألم عند المسيحيين) وعن العقلانية أيضا، حيث راج التغني بالمشاعر والتحام الأنا بالطبيعة في احتفالية شاملة صهرت الخير والشّر معا دون تمييز. ولكن التحوّل الحاسم أحدثه هيغل (1770-1831)، فلأول مرة في تاريخ الفلسفة، لم يعد السالب عدما بل صار له كيان، وأضحى محرك الوجود. فقد انتقد خلْط الرومانسيين بين الموجب والسالب، ووضَع ذلك التناقض في صميم الحياة، فالسالب لديه لا يأتي من الخارج، بل يستمد منبعه من الحياة، من الموجب، وما الحياة في اعتقاده إلّا عذاب في وجه من الوجوه، لأن الإنسان منذ البدء لا يحيا حياته، بل الحياة هي التي تحيا داخله. ويرى هيغل أن الإنسان عند الولادة مجرد نسخة من نوع كونيّ، والحياة مسار أكبر منه، ولذلك فهو عندما يحياها إنما يطمح إلى انتزاع تفرّده من الكونيّ الغُفْل، ولو أنه يقرّ بأن الكونيّ سيقضي عليه في النهاية وأن الموت سيعيده إلى غُفليّة النّوع، ولكنْ طوال حياته يكون قد أثبت، رغم أنف السالب، حرية أن يكون هو، وما الألم وكذلك السعادة إلا انعكاس لذلك الانتزاع، وكما أن الخطأ هو لحظة من الصواب، فإن الشرّ هو لحظة من الخير. وقد قوبلت جدلية هيغل تلك بعدة انتقادات، إذ عاب عليه بعضهم نزوعَه إلى فكر توفيقي يسعى إلى تجاوز الشر، ومَنْحَه دور مخلّص فادٍ، ولاسيّما عندما يؤكد أن الإنسان يمكن أن يستغل السالب لخلق شيء ما، كالأثر الأدبي أو الفني. ومن أبرز المعترضين على الغائية (نظرية تقول إن كل شيء في الوجود موجّه لغاية معينة) الهيغلية التي تهدف إلى تجاوز السالب، نيتشه (1844-1900)، فقد مثّل فكره قطيعة راديكالية مع علم الإلهيات، والفكر اليهودي المسيحي، ومثالية أفلاطون، وكذلك مع القيم الأخلاقية التي حُددت معاييرها باسم عالم غيبيّ يوصف بأنه أكثر عدلا وجمالا وحقيقة. ولكنه كان مع الحياة، ومع حب القدر (أمور فاتي Amor fati) الذي يعني القبول بكل ما يشكّل الواقع. وفي رأيه أن السالب لا علاقة له بالواقع، وأن تأكيدنا أو نفينا مرهونان بنظرتنا إلى الواقع، وسيطرتنا على علاقتنا بالعالم، وهو ما يسميه إرادة القوة، فهما يدخلان ضمن أحكام ذوق ورفض أو قبول ونبذ أو تماهٍ مع الواقع. وموقف نيتشه هنا ليس ميتافيزيقيا أو نظريّا بل هو استراتيجي، ينمّ عن فلسفة حياة، عضوية جدا، جعلها على صورة البيولوجيا الخلوية. ومن ثمّ، كان يرى في كل شيء، وكل تجربة، وكل حدث طريقا ينحو إلى تعزيز الذات والقوة، وما يسميه “الصحة الكبرى”، وطريقا آخر يسير نحو الضعف والعدمية والنفي. ما يعني أن “الصحة الكبرى” التي قد ترغّبنا الآن لا وجود لها في ذاتها، لأن المرض وجهة نظر حول الصحة، والعكس صحيح، فأن يكون المرء مريضا ثلاثة أيام يجعله ينظر إلى اليوم الرابع كحالة نقاهة وعافية، ما يعني أن تغيرات الجهد الحيوي هي التي تجعلنا نحس بأننا أحياء. استراتيجيصحّ ذلك على الجسد كما يصحّ على الروح، فنحن في حاجة إلى روح مريضة بقدر ما نحن في حاجة إلى روح سليمة. ونيتشه يستمد موقفه هذا مما عاناه من أمراض، ما يجعل تعافيه نوعا من استطعام لذة الحياة المنتزعة من ضديدها بعد صراع طويل. وبذلك لا يكون “حب القدر” إجابة بنعم من إنسان أسمى يتمتع بالصحة والسعادة، بل “نعم” من إنسان ناقِه، يتماثل للشفاء. فهل يعني ذلك أن فلسفة نيتشه خالية من تحول الشر إلى خير، وتوبة وخلاص؟ لئن كان المؤمن يدين الدنيا ويدعو إلى خلاص الروح فإن نيتشه ديونيسي يسعى لخلاص العالم حتى يعود هذا العالَم بريئا، ومنه جاء تبريره الجمالي للعالم ليعيد إلى الظاهر براءته. مفكر ثالث ساهم في هذا التحول الراديكالي هو الدنماركي سورين كركيغارد (1813-1855)، الذي كان لوثريا حتى النخاع، ولكنه كان أيضا حداثيا ركز فكره على الفرد، بل إن ثمة من قال إنه ممن مهّدوا الطريق للوجودية. لم يعرف كركيغارد نيتشه غير أنه واجه هو أيضا المثالية الرومانسية مثلما واجهها هيغل، إذ انتقد مالنخوليا البطل الرومانسي الذي سئم فرط شبعِه وامتلائِه وما عادت له رغبة في أي شيء، فوجد في الألم فرصة يمتحن من خلالها نفسه، فأرسى نوعا من جمالية الألم، ولكنه ألمٌ لم يلامس جوهر الحياة. كركيغارد يتوقف عند استراتيجيات المواساة التي تقدمها الأديان، وينظر إلى السالب كوسيلة لإفهامنا بأن مصيرنا الموت عاش الفيلسوف الدنماركي مآسيَ كثيرة في شبابه، حيث فقد أخويه وأخواته الثلاث، علاوة على والديه، حتى صار يعتقد أنه سيلقى الموت في سنّ المسيح، ولذلك كانت تجربته في جوهرها تحوم حول العلاقة بمن فُقِد، معترضا في هذه النقطة على هيغل الذي تتجاوز منظومته الفكرية الفقد وتتجاهله، لاعتقاده أن الآلة الجدلية تهدف إلى التخلص من السالب، سواء عند هيغل، أو عند الرومانسيين، فكلاهما يلغي العذاب والألم على طريقته. أما هو، أي كركيغارد، فينظر إلى تجربة الألم كما هي، أي فضيحة، ويعتقد أن كل محاولة لتخفيفها دنيئةٌ أخلاقيّا وميتافيزيقيا. والمفارقة في رأيه أن العقيدة الدينية هي التي تفتح لنا أبواب فضيحة الشرّ، ومن ثَمّ جاء تأمله المتواصل في صورة أيوب التوراتية وهو على كوم دَمال، يصرخ ألما ويرفض رغم ذلك أن يلوم ربّه على ألوان العذاب التي سلّطها عليه. وكركيغارد يتوقف عند ذلك الصراخ بمعزل عن استراتيجيات المواساة التي تقدمها الأديان، وينظر إلى السالب كوسيلة لإفهامنا بأن مصيرنا الموت، فهو علامة الفصل بين النهائي واللانهائي، بين ألمٍ لا نبصره، يجعلنا يائسين مطمئنين أو مستسلمين إلى اليأس، وألمٍ يُرى ويُحَسّ ويُكابَد، شاهد على علاقتنا المعذّبة بالآخرة. غض الطرف وجملة القول إن تفكيرنا مسكون بالسالب، ولكنه ملبّد بفكرةِ تجاوزه، ما يعني أننا نسعى دائما لجعل الفقدان لامرئيا، وهو ما مثّله الانصعاق الذي أصابنا حين ألمّت بنا جائحة الكورونا حيث جعلت الموت مرئيا على حين غرّة، دانيا يكاد يُلمس. ولئن كانت رؤية ملتبسة، تحجبها أرقامُ أمواتٍ مجهولين، فإنها أعادت الموت إلى أفقنا القريب، رغم أن آلة الموت تحصد كل يوم، بلا رحمة، وبأعداد تفوق يوميّا ضحايا الكوفيد – 19، ولكننا تعودنا على أخبار ضحايا الحروب والمجاعات وغرقى المتوسط حتى ما عادت تثير فينا غير ما تثيره الأخبار المتفرقة عن تلوّث البيئة والانقلابات والاكتشافات العلمية المعقدة التي لا نفقه معناها ولا مغزاها. صرنا نرى الموت بعيدا، لا يقربنا، ونمارس طقوسنا اليومية كأننا نعيش أبدا، واهمين أننا أصحّاء أسوياء ليس بنا هشاشة يمكن أن ينفذ منها مرض أو فايروس. أي أن السالب ملازم للحياة، لا تكون إلّا به، حتى وإن غضضنا الطرف عنه خوفا أو تطيّرا، والمفارقة أننا لا نزداد تمسّكا بالحياة إلّا متى راودنا وهدّد بقصفها قبل منتهاها.

مشاركة :