غالبا ما نربط بين الفن والجمال، بل نعتبر الجمال مقياسا للجودة الفنية، ولكن الجمال كمفهوم متغير على الدوام، سواء خارج الإنسان، من نظم أخلاقية وعادات وبيئة، إلخ. أو داخل الإنسان من ثقافة وأفكار وتجربة، الجمال إذن معطى تاريخي، يتغير بتغير الزمن والأحداث والأمكنة ووجهات النظر، وهذا ما وعى به الفن الحديث وتمرّد عليه. لذا نتساءل هل يمكن أن يكون العمل الفني غير جميل؟ سؤال يطرح قضية جمالٍ غيرِ طبيعي، ولكنه حاضر في حقل الفنون الجميلة، التي تُعَدّ مخزونا للجمال على اختلاف أشكاله. هذا السؤال، على بساطته، اختلف حوله المفكرون. يتميز العمل الفني عن سائر الآثار الإبداعية الأخرى بأن غايته ليست أن يكون مفيدا لطرف ما، بل أن يدرَك دون تَمثّلِ غاية، وذلك ما يجعله جميلا، لأن العمل الفني ليس رهينة وظيفة بل هو حرّ، على رأي كانْت. هذه الحرية هي التي تسمح للفنان بأن يجعل الجمال غايته، والتأثير في من يتأمّل عملَه مسعاه. فإذا كان العمل الفني غير جميل فمعنى ذلك أن الفنان أخطأ هدفه، لسبب من الأسباب، قد يدفعه إلى إزالة عمله، أو تحطيمه أو حرقه. ولكن من الذي يقيّم هذا العمل أو ذاك ويصدر فيه حكما قاطعا بأنه رديء؟ هل يملك المشاهد القدرة على التمييز بين الجيّد والرديء؟ ووفق أي مقياس لأن الذائقة ليست فطرية بل مكتسبة؟ التمرد على الذائقة بيير بورديو: الذوق تعبير طبقي، ومعنى الجمال ليس فطريا بل هو مكتسب بيير بورديو: الذوق تعبير طبقي، ومعنى الجمال ليس فطريا بل هو مكتسب لو اكتفينا بالذائقة العامة لألغينا أعمالا فنية كثيرة كانت سابقة لعصرها، لأن الفنان الحق متمرّد على السّائد، لا يجاري المألوف ولا يخضع لسلطة أو رقابة، وإنما يمارس فنه تلبية لإحساس داخلي عميق ورؤية فنية مخصوصة. النقاد لم يتقبلوا أعمال مختلف الحركات التي ظهرت منذ أواخر القرن الثامن عشر، بل إن بعض الفنانين المجددين مثل فان غوخ لم ينالوا الاعتراف والتقدير إلا بعد وفاتهم، أو واجهوا الرقابة وحتى القضاء نتيجة تمردهم على الأعراف والتقاليد كما حصل للإيطالي موديلياني عندما سحبت الشرطة لوحاته، أو مارسيل دوشامب الذي أثارت لوحته “عارٍ ينزل السلّم” فضيحة عند عرضها في نيويورك، أو الهولندي كيس فان دونغن الذي اقتيد إلى المحكمة بسبب لوحة عري، تماما مثل فلوبير وكان قد أحيل على القضاء بتهمة ازدراء الآداب العامة والدين والأخلاق الحميدة عن روايته “مدام بوفاري”. وبصرف النظر عن المعايير الأخلاقية التي يحاكَم على ضوئها الفن، فثمة أعمال فنانين آخرين لم يحسم الناس بشأنها قرارهم، مثل أعمال السورياليين والدّادائيين، منهم من احتفى بها وعدّها فتحا مبينا، ومنهم من رفضها جملة وتفصيلا، واعتبرها عبثا يراد منه لفت الانتباه عملا بمقولة “خالف تُعرف”. فأين نجد إذن المعايير الصارمة التي تنصف هذا العمل أو تلغيه؟ في كتاب “التمييز”، يذهب بيير بورديو إلى القول إن الذوق ليس سوى أحد التعابير الممكنة لطبقة اجتماعية ما، لأن معنى الجمال ليس فطريا بل مكتسبٌ. والحكم على عمل بأنه جميل لا يكشف عن قيمته الجمالية بقدر ما يكشف عن درجة “الزاد الثقافي” الذي ينطق به صاحبه، للتميّز عمّن هم مجرّدون منه. ما يعني في نظره أن الجمال صنفٌ بورجوازي أكثر منه استيتيقي. هل يمكن أن يكون العمل الفني غير جميل؟ هل يمكن أن يكون العمل الفني غير جميل؟ ثمّ إن بعض الأعمال تنبذ الجمال عمدا، لكونه من معايير الأخلاق البورجوازية. وهو ما فعله بودلير في “أزهار الشرّ” عندما “تغنّى شعرا” بما هو قبيح في شرع المجتمع، مؤكدا أن فكرة الجمال ليست متأتّية من قيمة المادة المقترحة، وإنما هي ناجمة عن كيفية الحديث عنها، فالجيفة والسّمّ والدّم في رأيه يمكن أيضا أن توحي بأعمال جميلة. كذلك مارسيل دوشامب عندما عرض مَبْولة كما هي، واكتفى بأن كتب عليها “نافورة” (Fountain) ومهر تحتها اسما غريبا (ر. مُوتْ). وكانت غايته من هذا النوع من “العمل” الذي أطلق عليه صفة “ريدي ميد”، لكونه بضاعة مصنَّعة، لفْتَ انتباهِ روّاد المعارض للنظر إلى أشياء المعيش اليومي نظرة جديدة. ورغم ما قيل عن هذا “العمل الفني” بأن الغاية منه كانت استفزازا للذائقة الجمعية أكثر من كونها بحثا عن تحقيق مطمح جمالي، فقد دشّنت تلك النافورة الفن الحديث. وحسب المرء أن يزور متحفا للفن المعاصر، الذي يختلف عن معارض الفنون الجميلة، ليلاحظ عدد الأعمال التي لا تبحث عن الجمال بقدر ما تبحث عن استفزاز الزوار وإحداث دهشتهم، وفي الأقل تسليتهم، مثل المعارض الذي يقيمها الفرنسيان كريستيان بولتنسكي، وبرتران لافيي، والياباني غوتاي، ومجموعة فلوكسوس العالمية، أو مجموعة أرتي بوفيرا الإيطالية، أو حركة نيو دادا. غاية الفن حنّة أرندت: العمل لا يكون فنيا إلا بدوامه واستمراره وإلا صار مجرد تسلية حنّة أرندت: العمل لا يكون فنيا إلا بدوامه واستمراره وإلا صار مجرد تسلية فمنذ الريدي ميد الذي ابتدعه دوشامب (وهو فنان حقيقي أثبت ذلك في أعمال كثيرة قبل أن ينزع إلى الاستفزاز والسخرية من الساهرين على الفن) أصبح كل شيء قابلا لأن يتحول بقدرة قادر إلى عمل فني، بدعوى أن تلك حرية الفنان المطلقة في عصر الديمقراطية. وهذا ما أشارت إليه حنّة أرندت في كتابها “أزمة الثقافة” حين حذّرت من مخاطر الخلط المقصود في الثقافة الجماهيرية، ففي رأيها أن العمل لا يكون فنّيّا إلا بدوامه واستمراره، وإلا صار مجرد تسلية، وأن الجمال هو ما يعطي العمل خلوده الممكن لأنه غير قابل للاستهلاك. والحق أن الجمال ليس معطى طبيعيا، وإلا لما اختلف المفكرون والفنانون في تحديد ماهيته. وذلك ما تؤكده كارول طالون هوغون، المتخصصة في علم الجمال وفلسفة الفن، فقد لاحظت أن تحديد مفهوم الجمال صعب، وأن ثمة عبر التاريخ طرقا مختلفة لتمثله، وأن مرحلة ما قبل الحداثة، أي ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، شهدت منعرجا حاسما. وفي تلك الفترة وقع المرور من تصور ميتافيزيقي للجمال إلى نوع من أنثروبولوجيا التجربة الجمالية، برزت خلالها سمات ثلاث للجمال: أولاها عمودية الجمال، كوصفنا الوجه أو الزهرة أو العمل الفني بالجميل، وما هي بجميلة إلا عن طريق المساهمة في جوهر للجمال قائم وفق نظام متسامٍ وبيّن. والثانية علاقة الجمال بمبدأي الخير والحقيقة، فعادة ما ننظر إلى الأشياء من زاوية موروث ديني مترسّب، ترى في الجمال الجسدي دليلا على جمال الروح. وأما الثالثة فهي أن الجمال ليس سوى مجرد تقدير ذاتي يصدر عن الفرد وحتى عن الإنسانية جمعاء، ولكنه يبقى وإن اختفى الإنسان من فوق سطح الأرض. وهذا معناه أن الجمال موجود خارج الإنسان، ومهما بلغ إعجاب الإنسان به، فإنه ليس مدينا بوجوده لذلك الإعجاب. ولئن كان الجمال في نظر هايدغر نمطا من أنماط تفتّح الحقيقة، فإنّه لدى كانْت هو ما يثير الإعجاب دون الاستناد إلى مفاهيم، ويتبدى كعامل رضا كوني، لأن المتعة تقع في جوهر الجميل، الذي يهدّئ ويطمئن، دون أن يرتهن لذوق كل شخص. وصفوة القول إن ما يجعل من خلقٍ جماليّ عملا فنيا هو قدرته على إثارة مُشاهده إيجابيا، لأن الجمال هو غاية الفن. ولئن اختلف الناس في تحديد ماهية الجمال، فإنهم يستطيعون بالفطرة أن يتعرفوا على الأعمال الفاشلة أو الرديئة، أو التي لا تروم سوى إحداث الدهشة.
مشاركة :