تجليات العزف على أوتار مسرح عالمي..

  • 6/23/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

إنها سيمفونية عزفها العامري وفريق عرضه بعد محفزه الأول مؤلفها الكاتب إسماعيل عبدالله   في قراءة تناصية تصل حد التماهي في إطارها العام بينه وبين الروائي الإنجليزي الراحل آلان سيليتو والملقب بالشاب الغاضب نظرًا لانتمائه لمجموعة «الشباب الغاضب» التي تضم روائيين تعكس أعمالهم خيبة أمل الطبقة العاملة من الشباب بعد الحرب العالمية الثانية، ومن بينهم كينجسلي أميس وجون أوزبورن وجون براين، يجوس الكاتب الإماراتي إسماعيل عبدالله عالم رواية سيليتو الشهيرة (الجنرال)، ليشكل منه (سيمفونية الموت والحياة) التي يتطابق فعلها النقائضي الساتيري الفاقع ومعزوفة الإرهاب الداعشي المجرم الأعمى القاتل في مواجهة قيم الجمال والسلام والحب التي تتجلى حضورًا وسموًا في روح العاشقين للموسيقى بوصفهم الحياة ذاتها.  هذه الرواية الشهيرة يعيد الكاتب إسماعيل عبدالله صوغها من جديد وفق قراءته العصرية والإسقاطية لعالمنا اليوم، عربيًا ودوليًا، في ظل تنامي وتفاقم شرور الجماعات الإسلاموية ممثلة في (داعش) التي امتهنت القتل المجاني والسبي والنهب وتشويه ومسخ كل القيم الإنسانية النبيلة، والتي لن تجد غضاضة في جعل العالم كله خاضعًا خانعًا لسلطة غزواتها الظلامية وراياتها السوداء ومآربها الحقدية المقيتة والبغيضة، ولم يتكئ الكاتب عبدالله في هذه الرواية إلا على إطارها العام الذي وجده قادرًا على استيعاب فكره ولغته الخاصتين به واللذين استنطقهما من قدرته النصية على تفكيك الحالة الإسلامية والإسلاموية في واقعنا العربي والتي لم تعتق حتى البلدان البعيدة في أوروبا وآسيا وأفريقيا عن انعكاساتها الفتكية والعدوانية عليها.  إنها قراءة جديدة لهذه الجماعات قطاع الطرق في عصرنا هذا، يصوغها الكاتب عبدالله بلغته الشعرية التي تتفتق عن كل موقف فيها نصوص أخرى نظرًا لمحمولاتها الدلالية العميقة التي تنهل من معين النصوص المقدسة والموروثة وفق خطاب الكاتب الرؤيوي الحداثي الخاص به وبقاموس اشتقاقته وتخريجاته التي تتسق وروح التحول في الفعل والرؤية ذاتها، وحسنا فعل الكاتب عبدالله حين وقف على الركائز الإنسانية في النص الأصلي لآلان سيليتو ليمنح خطابه أفقًا عالميًا غير مقتصر على مجتمع ما أو بلد بعينه، ومن بين هذه الركائز، الفرقة السيمفونية العالمية التي تسعى للترفيه عن الجيوش المدافعة عن أوطانها، ليصبح هذا النص قابلاً للتجسد في كل مكان في العالم.  إن هذا العزف السيمفوني العالمي للكاتب عبدالله، يقابله عزف سيمفوني موسيقي مسرحي كوروغرافي سينوغرافي إبداعي خلاق، تجلى من خلال رؤية المخرج الإماراتي المبدع محمد العامري لكل تفاصيل (سيمفونية الموت والحياة) التي استحق عليها هذا العرض جائزة أفضل عرض وتأليف وإخراج وديكور في أيام الشارقة المسرحية الثلاثين حين تم عرضها على خشبة مسرح قصر الثقافة بإنتاج مسرح الشارقة الوطني. ولنكون في مواجهة خلق مسرحي جديد يشظي هذا النص الإشكالي تماهٍ إبداعي خلاق بين عبدالله والعامري وكما لو أن الاثنين يقودان هذه السيمفونية بعصا مايسترو واحدة.  في هذا العرض الذي يقوده مخرج متمكن مدرك لمعطيات وأبعاد لغته الجمالية والأدائية، تتداخل كل الفنون في سيمفونية واحدة لا تقف على مفاصلها الموسيقية فحسب، وإنما تصبح السينوغرافيا والكوروغرافيا والإضاءة والممثلون والوثيقة جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الحركي المتنافر والمتنامي، وقد كان النصيب الأكبر والأوفر في هذه السيمفونية لاشتغال العامري على الجانب التقني والميكني المذهل حقًا، بدءًا من دخول القاطرة التي تضم الفرقة السيمفونية المستهدفة والتفجيرات المحيطة بها من قبل أعداء الحياة وتحول الممر الضيق السالك للقاطرة إلى عالم يفضح ويكشف مخالب الشر الداعشية وسعيها المحموم لحصار أشد مرارة وقسوة على الفرقة السيمفونية من سكة القطار الضيقة السالكة.  وتتعضد هذه التداخلات المتنافرة والمتباينة لهذه السيمفونية التي تطبق على أنفاسك وأنت تراها تُعزف على شفير الموت والحياة، تتعضد مع المؤثرات التي يتواشج صوتها مع كل لحظات الفعل في شكلها الأقسى والتي تحدث في حالات الخوف والتوجس والهلع التي تتعرض لها الفرقة السيمفونية بسبب التهديدات المروعة والمباغتة للعدو، والتي لا يحسم أمر مواجهتها غير عودة أفراد الفرقة إلى موسيقى الروح والحنين والجمال أملاً في الخلاص. كما تتعضد هذه التداخلات مع الحالات النفسية القلقة الصعبة التي يمر بها أفراد الفرقة لحظة تقرير مصيرهم سواء بالموت أو الحياة أو مواجهة الموت بالحياة كما شاء قائد الفرقة لأفرادها أن يكونوا، أو لحظة التلهي بلعب الورق واستحضار مواقف تدعو للضحك والسخرية حتى في أقصى لحظات الحنين فيها، أو لحظات الشعور بالموت المحتوم كلما دنت قوى الشر الداعشي من أجسادهم وأنفاسهم، أو لحظات انتظار حسم قائد فرقة العدو أمر مصيرهم، بقاء أو هروبًا أو موتًا.  كل مفردة من مفردات هذه السيمفونية شاء لها المخرج المبدع محمد العامري أن تعزف أوتار حزنها وفرحها وقلقها وأزمتها وصراعها في هذا العرض، إذ كل هذه التداخلات لا تنفصل عن ما ينبثق من جسدها ونفسها أو ما يحيط بهما، ففي الوقت الذي يتعالى فيه صدى البوح همسًا أو جهرًا، نلحظ بالمقابل معزوفة الوثيقة الفيلمية وصور الذاكرة الفدحية تتقاطع وتتداخل آلاتها البصرية وهذا البوح، ليتجلى معها بوح آخر يكمن صداه في أنين الصمت المريب أو في صرخة القائد التي تروم الخلاص من هذا الصمت وهذا الخوف بالمواجهة وإن كان الموت ثمنها.  وبين معزوفات السيمفونية المعلنة الظاهرة والداخلية المضمرة أو المتوجسة، يشتغل الضوء على خلق دلالات مكانية وزمانية ونفسية وافتراضية تتجسد من خلال تكوينات متعددة الملامح والمجازات تتجاوز حدود أبعادها الأطرية الواقعية، لتأخذ أبعادًا أخرى تعزف على طبول الفدح والمواجهة بين المعلن والمضمر، بين المكشوف والمتواري، ليصبح هذا الضوء لغة لا تنفصل مفرداتها عن كل مفردات سيمفونية الموت والحياة.  وتتجلى مفردات وعناصر هذه السيمفونية في أقصى ممكنات تجسيدها، في الكوروغرافيا التي تُعتبر ذروة التعبير عن رقصة الموت والحياة في هذا العرض، وخاصة في رقصة المواجهة بين الموسيقى والسلاح، بين الجمال والبطش، بين الخير والشر، بين الانتصار للحياة والانتصار للموت، إنها من أجمل حركات هذه السيمفونية في هذا العرض، وأكثرها قدرة على التأثير على الآخر، والتي من بعدها غير قائد العدو الداعشي وجهته العدوانية ولاذ لذاكرة الجمال في داخله التي غيبها الشر بعد انتمائه لكتائب الموت والشر.  وتتآزر هذه المشهديات الكوروغرافية المعبرة مع المشاهد الصورية المجسدة، والتي شكل منها العامري لغة بصرية جمالية اختزالية لحالات المواجهة ومسيرة رحلة الموت والحياة، والتي لم تكن بمعزل عن معزوفة الموت والحياة في هذا العرض.  لقد امتدت شاعرية نص الكاتب إسماعيل عبدالله لتكون جزءا من النسيج الشاعري لسيمفونية العامري الخلقية، وليتجسد كل ذلك في الشاعرية الأدائية والسينوغرافية التي شكلت لغة تتعدد فيها دلالات العرض، سواء من خلال البانوهات أو الأطر أو الضوء أو القطار نفسه، وتماهيها مع دلالات الجسد التحولية التي شكلت في فضاء العرض أيضًا معمارًا حيًا لا يقل جمالية عن جمالية السينوغرافيا في إطارها البصري المصمم والمنفذ، ولعل أجمل لحظات العزف على هذه السمفونية تكمن في حركتها الأخيرة، وهي لحظة اغتيال قائد العدو من قبل قيادته الكبرى بين مقاعد المتفرجين، ليصبح المتفرجون ذاتهم رأي عام شاهد على جرائم هذه القوى البطشية العدوانية العمياء، بدل أن يكونوا متفرجين على الجريمة فحسب.  إنها سيمفونية عزفها العامري وفريق عرضه بعد محفزه الأول مؤلفها الكاتب إسماعيل عبدالله، عزفها بروح مبدع متمكن من تفكيك خطاب صعب وإشكالي، كما عودنا في غالب عروضه المسرحية، وهو في هذا العرض السيمفوني يؤكد برؤيته الإخراجية لمثل هكذا نص قدرته على اقتحام فضاء العالمية بجرأة وثقة، خاصة وأن هذا العرض يتوافر من وجهة نظري على عناصر بحثية وجمالية حتما ستجد لها موقعا وأثرة لدى مشاهديها في كل مكان في العالم.  وإذا كان لدي ثمة ملاحظات في هذه المعزوفة، فهي في مشهدية الرقصة المولوية الصوفية الأولى التي كما أعتقد أنها لا تتسق مع الذهابات الداعشية المتزمتة والتي ترى في مثل هذه الرقصة كفرا وزندقة أيضا، أما الأخرى فهي في المواجهة الطويلة بين قائد الفرقة الموسيقية وقائد قطاع الطرق والتي لم تخلو من الوعظ والتقريرية والمباشرة والدوران الطويل للطاولة بهما إلى حد الملل، أما الملاحظة الثالثة فوجدتها في وقعنة أداء الممثلين الواضحة إذا ما قورنت بجماليات اشتغال المخرج على الفضاءات الجمالية والادائية الأخرى كالسينوغرافيا والكوروغرافيا، أما الملاحظة الأخيرة فرأيتها في اضطراب مشهد النهاية بعد قتل قائد العدو، حيث لم تتحدد وجهة هذه الفرقة ولا قطارها وإن ظلت الحروب مشتعلة ولم تنته.  مجرد ملاحظات لا تقارن بمجمل الحالات الإبداعية التي عشناها في هذا العرض السيمفوني الخلاق من خلال مؤديه الرائعين الفنان القدير أحمد العمري والفنانين الشباب المتألقين رائد الدالاتي وعبدالله مسعود ومحمد جمعة وناجي جمعة، ولكل جوقة العرض ومصممي السينوغرافيا والإضاءة والكوروغرافيا والموسيقى والمؤثرات والماكياج والجرافيك والصوت والتقنيات الفنية.. فتحية لهم من القلب..

مشاركة :