التباعدان الروحي والجسدي يجتمعان في مقهى سعد يكن | ميموزا العراوي | صحيفة العرب

  • 6/24/2020
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

لم يبتعد الفنان السوري سعد يكن يوما خلال لوحته / لوحاته عن فكرة كون الأعمال الفنية نتاجا فنيا حيويا وقابلا للتحوّل في عين الناظر إليها، وذلك وفق تبدّل الزمن والظروف المرافقة له. ويمكن الاستشفاف من أعماله الفنية المتلاحقة، بالنسبة له، أن قيمة اللوحة الفنية لا تتبدّل فقط وفق المتغيرات المحيطة بالمُشاهد لها، بل هي طاقة تُعيد تشكيل نظرتنا إلى الحياة وتفتح بصرنا على واقع نعيشه دون أن نفقه خطورته إلاّ متى يحل مُتحقّقا على أرض الواقع. عندما قدّم الفنان التشكيلي السوري سعد يكن في العام 2017 في رحاب إحدى صالات بيروت الفنية، مجموعة من اللوحات تتجوّل في أرجائها المُختنقة فراشات غرائبية تخفق قلقا وتحوّلا، هل علم أنه كان يؤسّس لمنطق إنساني جديد استحضر عبره من المستقبل وليس من الماضي؟ أجواء غيبوبة بشرية انتشرت واجتاحت العالم بأسره؟ ولعل لوحاته الماضية التي أعاد نشرها مؤخرا على صفحته الفيسبوكية وعلّق على بعضها من وحي الحاضر، وكذلك من خلال لوحتين جديدتين له أبدعهما خلال أزمة فايروس كورونا، أكبر دليل على ذلك. وهذا تماما ما تستكمله اليوم العديد من أعمال التشكيلي السوري الفنية. فخلال أربعة أشهر فائتة، عاش العالم بشكل عام وسكان الشرق الأوسط بشكل خاص، الذين يعني لهم التقارب والحميمية بين الأفراد الشيء الكثير، عزلة كبيرة. عزلة تجلت مجدّدا أكثر عمقا في لوحات سعد يكن أكثر من أي زمن مضى، لاسيما تلك التي صوّر فيها رواد المقهى الحلبي، حيث الطرب والأنس والتجمعات. ولكن في ذات الوقت بمقدار هائل من الوحدة والعزلة وغياب أي عاطفة تألّف بين الموجودين. استباق الفاجعة الفنان السوري سعد يكن في مطعم "ونيس" بمدينته حلب، وقد أحاطه الفراغ من كل جانب، ليظل وحيدا يجترّ الذكريات متجرّعا المأساة الفنان السوري سعد يكن في مطعم "ونيس" بمدينته حلب، وقد أحاطه الفراغ من كل جانب، ليظل وحيدا يجترّ الذكريات متجرّعا المأساة التفت الفنان السوري إلى أعماله الفنية بنظرة جديدة ليرى في تلك الوحدة ضمن الجماعة، والتي رسمها طويلا ومرارا في لوحاته، حاضرة بشكل مُباشر وتحديدا عبر التباعد الاجتماعي الذي أُوصي به عالميا ونُفّذ طويلا. خلت الأماكن العامة والمقاهي من عشاقها وبقيت الكراسي فارغة والطاولات خالية على أرض الواقع تماما كما في لوحات الفنان. وقد أعاد سعد يكن نشر بعض صور عن لوحاته مُعلقا على إحداها التي أبدعها سنة 2016 “ابقوا في المنازل”. ويظهر في قلب هذه اللوحة مكانين متباعدين أحدهما غرفة في منزل متراصة بأفراد عائلة تحوم وتتكدّس كأسماك برتقالية في مياه حوض ضيق وضاغط، والآخر مكان هو لمقهى يطغى عليه اللون الرمادي يخترقه مدرج “خلاص” نزولا من ضيق المنزل لينسكب ضوئيا حتى مقدّمة اللوحة. رمادية باردة، ولكن أكثر رحابة وأقل اختناقا من المنزل. وأعاد الفنان نشر صورة عن عمل فني له من سنة 2004، ومعها عنوانها الأصلي “آخر رجل في المقهى” يظهر فيها أحد رواد المقهى في عمق التشكيل الفني وحيدا كلحن حزين بقي مُترنحا بعد انتهاء الحفل على أحد الكراسي الفارغة. من ناحية ثانية، مُتابع مسيرة سعد يكن الفنية، لاسيما في السنوات الـ15 الأخيرة، ستعود به الذاكرة إلى بعض ما كتبه الفنان في عزّ الحرب السورية. قال “نُهب مرسمي، وهو كان أيضا البيت الذي حلمت طوال سنوات بأن أشيّده للعيش في ريف حلب، تمكّنت من ذلك قبل اشتعال الحرب بفترة قصيرة، لم أتمتع بما أنجزت، أُحرقت 22 لوحة جدارية من مجموعة ‘ألف ليلة وليلة’، أصبحت رمادا، منزلي الصغير في أحد أحياء حلب القليلة الآمنة، احتواني مرة أخرى، لم أغيّر عاداتي اليومية كثيرا، بقيت أنزل إلى مطعم ‘ونيس’.. لكن لم يعد هناك رواد كثيرون، تراجعت أعدادهم تدريجيا، حيث بتّ أكمل جلستي محاطا بالفراغ، وعمال المطعم الذين تتعلّق عيونهم بشاشة تلفزيون تنقل صور الدمار والأشلاء المتناثرة”. صمود المقهى اختلفت أسباب هجرة الأما لوحة سابقة للفنان السوري "آخر رجل في المقهى" لوحة سابقة للفنان السوري "آخر رجل في المقهى" كن العزيزة لتبقى الوحدة هي عنوان حاسم لزمن تعرّض فيه كل مفهوم إنساني إلى تصدّع عميق. حرب، فوباء، فقلق مفتوح على مستقبل الإنسانية. وفي نفس السياق نشر الفنان السوري سعد يكن عملا جديد له وأرفقه بهذه الكلمات “رجل في زمن الحجر الصحي بالمقهى”. ولوحة أخرى بعنوان “كورونا/ الحجر الصحي” يحار الناظر إليها إن كان الفنان قصد أنه رسمها خلال فترة الحجر أو تعبّر عنه. لكنه سرعان ما يلحظ في هذه اللوحة العرضية سلسلة من ثلاث حلقات لطاولات بيضاء واسعة يتحلّق حولها بشر يكمم بعضهم الجزء السفلي من وجوههم، بينما يعمد بعضهم إلى تحريك الرأس بعيدا عن الجالسين بقربهم. بُعد روحي أضيف إليه في لوحاته بُعد جسدي. ويبقى المقهى صامدا صمود اللقاء الحقيقي والمؤجل، وربما الواعد بوصال حقيقي غاب منذ فترة طويلة. تأتي أعمال الفنان السابقة والجديدة لتؤكّد على ما كتبه سنة 2019 محرّضا فيه البشرية على إعادة ابتكار معنى الحياة والفرح الأرضي بعد أن تلقى شتى أنواع الضربات. يقول “في حياة نحياها معا.. لا حاجة لرجل بلا معنى، فلا تلحقوه. ولا حاجة لامرأة بلا معنى.. فلا تحبوها. ولا حاجة لماء لا يغسل الجسد المتعب.. ولا حاجة لأغنية لا تغني عنكم.. ولا لقمر بعيد لا يضيء أمسيات السهر حول النبات.. لا تكونوا هباءً!”. يذكر أن الفنان سعد يكن من مواليد مدينة حلب عام 1950، درس في مركز الفنون التشكيلية في حلب وانتسب لكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1971، وأقام أكثر من خمسين معرضا فرديا في مختلف الدول العربية والأوروبية والولايا المتحدة وكندا، وشارك بأكثر من 150 معرضا مشتركا في دول مختلفة.

مشاركة :