جائحة كورونا بتبعاتها التي تخطّت الجوانب الصحية إلى المجالات الاقتصادية والمالية، وبالتالي الاجتماعية، تمثّل تهديدا استثنائيا للعراق بفعل تراكمات 17 سنة من الفشل في إدارة شؤون الدولة وإهدار مواردها بطريقة أفقدتها مناعتها وقدرتها على مواجهة المصاعب والتعقيدات، بحيث تبدو عملية الإصلاح اليوم متأخرة وغير مضمونة النجاح. بغداد – وضعت جائحة كورونا العراق أمام تحدّيات استثنائية تتمثّل خطورتها في كونها حصيلة 17 سنة من الفشل العام في إدارة شؤون الدولة ما أثّر على مختلف مقدّراتها وبُناها وأضعف قدرتها على مواجهة الأزمات وامتصاص الصدمات، مثل الصدمة الحالية ذات التبعات الصحية والاقتصادية والاجتماعية المؤلمة. وفيما بدا القطاع الصحي العراقي المتهالك وقد تجاوزته الأحداث المتسارعة المتعلّقة بانتشار الفايروس القاتل، بدأت المخاوف تسود من متوالية انهيارات قد تتداعى وفق مفعول الدومينو وتطال مختلف القطاعات والأنشطة الحيوية لتصيب القطاع الاقتصادي والمالي في مقتل ولتجعل توفير الضرورات أمرا غير مضمون في ظل شكوك في قدرة الحكومة على مواصلة دفع رواتب الموظّفين والمتقاعدين. وجاءت أزمة كورونا بالتزامن مع مجيء حكومة عراقية جديدة خلفا لحكومة عادل عبدالمهدي التي سقطت في نوفمبر الماضي تحت ضغط موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الشعبية على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى استشراء الفساد في مفاصل الدولة. وترفع الحكومة الجديدة التي يرأسها مصطفى الكاظمي المستقل عن الأحزاب الدينية التي قادت البلاد منذ سنة 2003 وتسبّبت في تخلّفها على مختلف المستويات، لواء الإصلاح الشامل وانتشال البلد من أوضاعه المتردّية، لكنّ مراقبين يخشون من أن يكون وقت التدارك قد فات، وأن تكون الأزمة الحادّة الحالية بصدد القضاء على وسائل الإنقاذ وأدواته. وأطلق عجز الدولة العراقية عن مواجهة جائحة كورونا وتخفيف وقعها على مواطنيها مجدّدا حالة النقمة على الطبقة السياسية التي تولّت زمام الحكم بعد إسقاط الغزو الأميركي لنظام الرئيس الأسبق صدّام حسين والتي لم تضف شيئا إلى إنجازاته التي حقّق بعضها في فترات صعبة من ضمنها فترة حرب الثماني سنوات ضدّ إيران ومرحلة الحصار الشديد والعقوبات الدولية القاسية التي فرضت على العراق بعد غزوه للكويت، بل إنّ تلك الطبقة الحاكمة لم تستطع حتى الحفاظ على تلك الإنجازات وحمايتها، مكتفية بانتقاد النظام السابق ووصمه بأقذع النعوت. ويقول صالح الحمداني، وهو مدون عراقي شهير متهكّما “لعن الله النظام البائد، لم يبن لنا مستشفيات كافية”. صالح الحمداني: لعن الله «النظام البائد».. لم يبن لنا مستشفيات كافية صالح الحمداني: لعن الله "النظام البائد".. لم يبن لنا مستشفيات كافية وحتى الآن يطلق الإعلام الرسمي في العراق صفة “البائد” على نظام الرئيس السابق صدام حسين وسط قناعة تزداد شيوعا ورسوخا بين السكان بأنّ النظام الحالي ليس في مستوى سابقه. وتتضمن عبارة الحمداني إشارة ساخرة إلى الأوضاع المزرية التي يشهدها القطاع الصحي العراقي حاليا، في ظل تفشي فايروس كورونا على نطاق واسع داخل البلاد، وعجز واضح من قبل المؤسسات المعنية عن الاستجابة للضغط الناجم عن ازدياد معدلات الإصابة. وأظهرت صور التقطها مرضى في أكبر المستشفيات الحكومية داخل مدينة الناصرية جنوب العراق وضعا مزريا لمصابي كورونا، لجهة نقص احتياجاتهم الطبية الأساسية، ما تسبب في عدد قياسي من الوفيات خلال ساعات. وخلت مستشفيات البصرة والناصرية بجنوب البلاد الثلاثاء من قناني الأوكسجين الضرورية لإنعاش الحالات الحرجة بين المصابين بفايروس كورونا. وكشفت إحصاءات غير رسمية عن مؤشرات مقلقة في ما يتعلق بتحول المستشفيات الحكومية العراقية إلى مناطق موبوءة بالفايروس. وتقول الإحصاءات إن معظم الحالات الحرجة التي تدخل المستشفيات في بغداد والمحافظات تنتهي إلى الوفاة، مقارنة بالحالات الحرجة التي يجري احتواؤها في المنزل، لذلك ينصح الكثير من الأطباء العراقيين المرضى بالبقاء في منازلهم حتى إذا كانت الأعراض شديدة. وأعلنت وزارة الصحة العراقية، الخميس، تسجيل 107 وفيات بكورونا تمثل أعلى معدل يومي منذ ظهور الفايروس بالبلاد في فبراير الماضي. وقالت الوزارة في بيان إنّه تمّ تسجيل ألفين و237 إصابة بالفايروس خلال الـ24 ساعة. وأضافت أن إجمالي الإصابات ارتفع إلى 39 ألفا و139 توفي منها 1437. وفي مظهر على جدّية التهديدات الحافة بالعراق جراء جائحة كورونا، اضطر رئيس الوزراء إلى الاستنجاد بالقوات المسلّحة لمواجهة الوباء. وأوعز مصطفى الكاظمي، الخميس، إلى الجيش والحشد الشعبي بدعم جهود وزارة الصحة في مكافحة الفايروس. وقال مكتب الكاظمي في بيان إن رئيس الحكومة “عقد اجتماعا مع دائرتي طبابة وزارة الدفاع، وهيئة الحشد الشعبي، ووجههما بدعم وزارة الصحة بجميع الإمكانيات المتاحة”. واعتبر الكاظمي، وفق البيان، أنّ “جائحة كورونا تمثل تحديا كبيرا”، مشددا على “إتاحة كل إمكانيات الدولة لمواجهتها”. ولفت إلى “أهمية الوعي المجتمعي لتطويق الجائحة وتقليل الإصابات”. ويواجه العراق بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الهشّة صعوبات في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة للحدّ من تفشي الفايروس، وبدل مواصلة الإغلاق التام وما يسببه من شلل للأنشطة الاقتصادية، اكتفت السلطات العراقية بفرض حظر جزئي للتجوال إلى أجل غير مسمى، حيث يتاح للسكان التجول خلال ساعات النهار مع مراعاة إجراءات الوقاية من الفايروس بما في ذلك ارتداء الكمامات ومنع التجمعات. ويسخر الحمداني من فشل الأحزاب التي أدارت البلاد منذ 2003، من دون أن تضيف شيئا على المنشآت الصحية التي كانت موجودة قبل ذلك، برغم الأموال الطائلة التي أتيحت لها. وقاد النقاش بشأن العبارة التهكمية التي أطلقها الحمداني إلى اكتشاف أن العراق أنشأ خمس مستشفيات صغيرة فقط خلال 17 عاما بين 2003 و2020. منشآت صحية متهالكة منشآت صحية متهالكة ويقول خبراء في مجال الاقتصاد، إن الحكومات التي تتابعت على إدارة العراق بعد سقوط نظام حزب البعث أهدرت أكثر من ألف مليار دولار أميركي من دون أن يتحسن أداء أي قطاع خدمي، بما في ذلك الصحة. ولا تزال الحكومات المتعاقبة تتخذ من قصور بناها صدام حسين مقرات لها في بغداد، فيما يسكن العديد من الساسة والمسؤولين العراقيين في منازل أنشأها “النظام البائد”. وحتى مطلع التسعينات من القرن الماضي كان القطاع الصحي العراقي يصنف على أنه من بين الأفضل في المنطقة، لكنه سجل تراجعا حادا خلال مرحلة الحصار الاقتصادي بسبب غزو الكويت وما تلاها من حروب وأزمات انتهت بإسقاط صدام حسين. وعادة ما يتناول العراقيون مآسيهم في سياق ساخر لنقد السلطة. وعلى سبيل المثال ينشر المدون العراقي حيدر حمزوز ورقة بيضاء فارغة، مشيرا إلى أنها تضم قائمة المستشفيات التي بنتها الأحزاب الإسلامية منذ 2003. ويطالب حمزوز متابعيه بالتمعن جيدا في تفاصيل القائمة للتعرف على طبيعة “الإنجازات” التي حققتها تلك الأحزاب طيلة 17 سنة من الحكم أتيحت فيها للبلد عدّة فرص لتمتين بناه التحتية وتحسين اقتصاده والارتقاء بالأوضاع الاجتماعية لسكّانه بما توفّر من عائدات النفط أثناء سنوات الارتفاع في أسعاره، لكن الفساد المستشري ابتلع تلك الموارد وجعل البلد اليوم في حالة من العجز إزاء جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية المصاحبة لها. اقرأ أيضا: استجابة إماراتية للوضع الصحي الصعب في العراق
مشاركة :