الرقيب ناقد أدبي لا يقرأ الكتب | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 8/27/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

حتى وقت قريب، كان الرقيب هو الناقد الأول في الوطن العربي، دون أن يحتاج إلى جهاز نظري. حسبه أن يحرر تقريره حتى يصادَر هذا الكتاب أو ذاك، امتثالا لما يمليه عليه النظام السياسي، الذي يقف من التابوهات الثقافية موقفا قد يغلو ويحتد، وقد يلين ويرتخي بحسب الأهواء والظروف. أما في بلاد الغرب، فكان الدور موكولا لرجال الدين، حتى بعد تراجع نفوذ الكنيسة. لئن كان الرقيب عندنا تابعا لوزارات الداخلية، يفلي المطبوعات فيمنع أكثر مما يجيز، فإنه كان في بلاد الغرب يتحرك من داخل الكنيسة، يصطفي هو أيضا ما يجوز وما لا يجوز، دون أن يملك حقّ المنع، بعد سيادة القوانين المدنية في سائر البلدان الغربية. ولا يجمع بين المدني والديني في هذه المهمة سوى وضع قائمة في ما لا يسمح تداوله بين الناس، خوفا عليهم من الانحراف أخلاقيا وسياسيّا، وصونا لهم ممّا ينافي الأعراف والتقاليد والخلق الحميد. ولكن إذا كان دور رجل الكنيسة استشاريّا فحسب، فإن دور رقيبنا العربي نافذ، ومن النادر أن يحذّر من كتاب ثم يبيحه الحاكم. المنع عند الكنيسة لقد كانت الكنيسة الرومانية، حتى أواسط الستينات، تمنع على المؤمنين الأتقياء قراءة أعلام الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، فأعمال لامارتين، وفكتور هوغو، وبلزاك، وجورج ساند، وألكسندر دوما الأب والابن، وأوجين سو، وفلوبير، وستندال، وجورج فيديو، وجول شانفلوري، وزولا كانت ممنوعة منعا باتّا في شرع أعلى سلطة دينية مسيحية في الغرب. وكانت قد أعدّت لذلك فهرسا للكتب المحظورة منذ عام 1559 تنحصر مهمة المشرفين عليه في الإشارة إلى الكتب المصادرة دون ذكر أسباب منعها، وظل ذلك سرّا مكنونا لم يُكشف عنه إلا عام 1998 بقرار من البابا يوحنّا بولس الثاني، عندما فتح للباحثين أرشيف مَجمع الفهرس. وكانت تلك الممارسة سارية منذ أواسط القرن السادس عشر، ولئن ألغيت عام 1966، فإن الأرشيف ظل طيّ الكتمان، حتى صدور قرار البابا المذكور الذي جاء في إطار تكفير الكنيسة عن ذنوبها، خصوصا بعد أن تأكد من عدم جدوى تلك الممارسة. الرقيب لا يبرر مصادرته لهذا الكتاب أو ذاك إلا نادرا الرقيب لا يبرر مصادرته لهذا الكتاب أو ذاك إلا نادرا هذا الأرشيف شكل مادة لكتاب “الرقيب ناقدا أدبيا – أحكام الفهرس، من الرومانسية إلى الطبَعيّة” للباحث الفرنسي جان باتيست أماديو، المتخصص في آداب القرن التاسع عشر، بيّن فيه طرق اشتغال الرقابة في الفاتيكان ودوافعها، وخضوع مداولاتها لمراحل ثلاث هي التبليغ والمعاينة والحكم، مثلما أوضح كيف كان الذين يتولون الرقابة في طورها الأول يحللون الأعمال الأدبية على طريقة نقاد الأدب، ولكن بطريقة تعكس خوفهم من تأثير بعض الأعمال في ذكاء الجمهور البسيط وحساسيته وسلوكه. أي أنه نقد خاضع لمؤسسة دينية يرفعه الرقيب إلى مَجمع الفهرس لاتخاذ قرار بالمنع أو التغاضي، ويبقى القرار النهائي من مشمولات البابا، ليدرجه ضمن المحظورات أو يغض عنه طرفه. والطريف أن الرقيب لا يبرر مصادرته لهذا الكتاب أو ذاك إلا نادرا، بيد أنه يوصي في الغالب بعدم ملاحقة الأعمال الرديئة، حتى وإن كان يدين محتواها أخلاقيا ودينيا، لأن رداءتها تلك تجعلها عديمة التأثير، بينما قد يساهم منعها في رواجها وجلب الأنظار إلى صاحبها. ودواعي الكنيسة إلى مصادرة الكتب هي دواع دغمائية وأخلاقية بالدرجة الأولى تندرج في إطار “التدين الرومانسي” والتطورات السياسية في ذلك العصر، ولكنها أدبية وجمالية أيضا، فالرقيب كان يهتم بعملية التلقي لدى القارئ وبفعل القراءة نفسه، فيغربل الأثر غربلة دقيقة لكي يجيزه أو يمنعه. الرقيب العربي الرقيب العربي لا يقيّم العمل من جهة شكله أو بنيته الفنية بل همّه المضمون ومرجعيّته الأيديولوجية الرقيب العربي لا يقيّم العمل من جهة شكله أو بنيته الفنية بل همّه المضمون ومرجعيّته الأيديولوجية أما في العالم العربي، فالرقابة شاملة يمارسها المجتمع بأسره، حتى من لا يقرأ، حسبُه أن يسمع أن هذا الكاتب أو ذاك “ازدرى الأديان” أو “أساء إلى الأخلاق الحميدة” كي يهبّ هبّة رجل واحد، لا ليصادر الكتاب، بل ليحرق كل نسخه، ويطارد كاتبه مطاردة قد تنتهي بالنفي أو القتل. ولكن الرقابة الأكثر شيوعا هي الرسمية، تلك التي تشرف عليها وزارات الداخلية، أهم ذراع من أذرع الأنظمة الحاكمة. وعندما نقول إن وزارات الداخلية هي التي تُعهد إليها متابعة المنشورات، فلا يعني ذلك أن لها من موظفيها من يملك حسّا أدبيا أو نقديا، بل كانت، وربما مازالت، تنتدب من الوسط الأدبي من يقبل أن يكون عينها على الكتب “المشبوهة”، وهم عادة صحافيّون وكتّاب وجامعيون يفرزون “الصالح من الطالح” من وجهة نظر النظام طبعا، ويصدرون على إثر الفرز تقاريرهم. بعض الأنظمة لا تعترض على طبع المنشورات، بل تتدخل لاحقا لمصادرتها، على غرار تونس، وبعضها الآخر يشترط قبل الطبع موافقة مسبقة، كما هو الشأن في سوريا. وكنت أحسب أن من يستعين بهم النظام هم من خاملي الذِّكر وضامري الحضور حتى اكتشفت أن “الكبار” أيضا لا يستحون من مصادرة مؤلفات زملائهم. حدث ذلك يوم نشر الأديب السوري نبيل سليمان مقالة في جريدة “الحياة” عن روايتي “الرجل العاري”، إثر صدورها وتتويجها في تونس عام 2009، وكنت قد اقترحتها من قبل على دار الحوار، قال فيها “وكان العيادي قد أرسل إليّ مخطوطة الرواية لأعمل على نشرها في سوريا، وجرى تسجيلها تحت الرقم 477 بتاريخ 23 مايو 2001، للحصول على الموافقة المسبقة لطبع الرواية، لكن القرار بعدم الموافقة صدر في 4 مارس 2002 ممهورا بتوقيع رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق آنئذٍ: علي عقلة عرسان”. وسواء تمّ الفرز بعد النشر أو قبله، فإن تلك الفئة لا تقيّم العمل من جهة شكله أو بنيته الفنية أو أسلوبه أو لغة مُنشئه، بل همّها المضمون ومرجعيّته الأيديولوجية أولا وآخرا. حسبها أن تتعقّب ما لا يروق الحاكم مقابل أجر أو مكرمة. دواعي الكنيسة إلى مصادرة الكتب هي دواع دغمائية وأخلاقية بالدرجة الأولى تندرج في إطار «التدين الرومانسي» والخطر لا يكمن في الرقابة الرسمية وحدها، لأنها قد تصادر الكتاب وتتحفظ عن ملاحقة كاتبه جزائيا، فغايتها بالأساس منع ترويج ما يحتويه، وإنما في ما يترتب عن ذلك من إشعاعات مؤذية تصيب كل المشرفين على المطبوعات، ناشرين وأصحاب مؤسسات إعلامية وثقافية، فهي تجبرهم على التوجّس من كل ما قد يسبب لهم خسائر مادية، وحتى قطع أرزاق. ومن ثمّ تجدهم ينوبون عن الرقابة الرسمية في تصيّد ما يقال وما لا يقال، وقد أثبتت التجربة عندنا في تونس أنهم كانوا أشد صرامة من رقابة الحاكم، ويحضرني في هذا المقام رفض رئيس القسم الثقافي لجريدة الصباح، في أواخر العهد البورقيبي، نشر قصيدة للمرحوم محمد البقلوطي، لأنها احتوت على البيت التالي “عسسٌ هنا، عسسٌ هناك/ يتناوبون على القصيد”، ثمّ نشرها الشاعر في ديوانه “آخر زهرة ثلج” ولم يعترض عليها الرقيب الرسمي، وربّما لم يستوقفه الديوان أصلا. ولا نستغرب حينئذ أن تكون نصوص تلك الفترة والفترة التي تلتها مسالمة، تساير الخط التحريري للصحف والمجلات، وتتجنّب تقديم ما تعلم سلفا أن الناشر يرفضه، فقد كانت تلك الآثار في وعي أصحابها الباطن مسكونة بناقد كبير اسمه الرقيب.

مشاركة :