أدى الانهيار الاقتصادي المتسارع في لبنان بالإضافة إلى تدابير الإغلاق للحد من انتشار فايروس كورونا، إلى تدهور غير مسبوق في قيمة العملة المحلية، فوجدت شرائح واسعة من اللبنانيين في مدينة طرابلس أن قدرتها الشرائية تتآكل بسرعة، ما جعل كثيرين عاجزين حتى عن ملء براداتهم بالخضار والألبان واللحوم. طرابلس (لبنان) - تتفرّس عيون عامر الدهن جريدة ورقية عن بعد التقطت صورا لقطع من اللحم والدجاج لكن الصورة بالنسبة إليه ليست واقعا ولن تساعده حتى على استنشاق رائحة ما تحويه. ويستدين الدهن ربطة الخبز التي ارتفع سعرها من 1500 ليرة إلى 2000 ليرة في وقت سابق من هذا الأسبوع، ويغازل ابن مدينة طرابلس الواقعة شمال لبنان صور اللحمة كقطعة أصبحت نادرة ليحتفظ بها في ذاكرته، إذ ليس متاحا له ولعائلته التلاحم معها بعد اليوم في ظل أسوأ أزمة اجتماعية ومالية يمر بها لبنان. ويكابد الدهن (55 عاما) أوجاعا مزمنة ويحمل أدوية عدة بين يديه في حي الشعراني أحد أكثر الأحياء فقرا في مدينة طرابلس الشمالية. وتحدث الدهن عن حالة العجز المعيشي التي بلغتها عائلته قائلا “لم نشتر لحما منذ رمضان الماضي، لم نعد قادرين على شراء لا لحوم حمراء أو بيضاء.. صرنا نشاهدها فقط في المجلات والجرائد”. وأضاف وهو أب لأربعة أولاد يعيشون في منزل يحتاج إلى ترميم، أن حياتهم تغيرت وأصبحت “صعبة للغاية فالدولار مازال مستمرا في الصعود، والدولة عاجزة عن إيجاد أي حل تكتفي بالفرجة على اللبنانيين وهم يعانون الأمرين”. ولم تعد سلطانة زوجة عامر تناجي اللحمة بل إنها تمنّي النفس بالحصول على البقوليات لكي تسد بها جوع أولادها. وقالت إن الواقع المتغير انعكس على المواد الغذائية “طعامنا تغير، والغلاء غير مقبول بالمرة، فحتى العدس والفاصوليا والحمص والفول صارت أسعارها باهظة”. وينعكس هذا الوضع الاقتصادي الصعب في مدينة طرابلس ذات الغالبية السنية على كل المناطق اللبنانية على مختلف طوائفها ومذاهبها مع وصول سعر صرف الدولار في السوق السوداء من 1517 ليرة وهو السعر الرسمي إلى عتبة عشرة آلاف ليرة ليل الخميس وهو ما أدى إلى تآكل الرواتب وذوبان الطبقة المتوسطة في البلاد. وفقد عشرات الآلاف أعمالهم أو جزءا من دخلهم مع إغلاق معظم المحال التجارية أبوابها وموجة الغلاء غير المسبوقة في بلد يكاد يكون خاليا من الموارد الأولية ويستورد معظم منتجاته بالدولار من الخارج. ووصف بوجار هوكسا من منظمة كير الدولية في لبنان ما تمر به البلاد بأنه “أزمة إنسانية” وحثّ المجتمع الدولي على التدخل قائلا “نتحدث عن مئات الآلاف من الناس الذين هم على حافة الهاوية”. وعلى الرغم من أن مدينة طرابلس تضم نسبة كبيرة من أغنياء لبنان ورجال السياسة والزعماء الأثرياء، غير أنها تربو على مساحة فقر كبيرة، إذ اعتبرها البنك الدولي عام 2017 بأنها المدينة التي تحتوي على الأكثرية المطلقة لعدد الفقراء في لبنان. وبين أزقة ضيقة ومنازل متآكلة وغرف متراصة، تتلاصق الأحياء الشعبية التي لا يتذكرها السياسيون اللبنانيون إلا خلال عمليات الاقتراع البلدية والنيابية. ومع تفاقم الأزمة المالية، اشتدت وطأة الحياة على أبناء حواري طرابلس ولاسيما أولئك الذين يتكدسون في غرفة واحدة وينامون على طريقة (كعب ورأس) وهو مصطلح متعارف عليه لدى فقراء يتشاركون الفراش الواحد. ويروي عمر الحكيم الذي يعمل حارسا في ورشة بناء في حي القبة أنه مع أولاده الستة يعيشون في غرفة واحدة براتب 600 ليرة يوازي اليوم 60 دولارا شهريا فقط. وأكد الحكيم أن أبناءه عاطلون عن العمل وتتراوح أعمارهم بين 11 و22 عاما، ويشكو من ارتفاع سعر ربطة الخبز في لبنان ويشير إلى أن عائلته تحتاج يوميا إلى أربع أو خمس ربطات. وأوضح أن مستوى الغلاء فاق الحد، مؤكدا أنه صار ينام في ورشته لاسيما وأن المنزل لا يتسع لهم جميعهم. وكآخرين اشتاقوا إلى اللحوم لفت الحكيم أنهم “كانوا في السابق يجتمعون على شواء اللحوم أو الدجاج أو السمك أيام الآحاد، لكن صار كل هذا من الماضي، وأصبحنا نشتاق للحوم التي لم تدخل منزلنا منذ العيد”. وتضاعفت أسعار المواد الغذائية في لبنان ودفعت البطالة الكثيرين إلى اللجوء للجمعيات الخيرية وبنوك الطعام. غير أن الجوع قد ينتشر على نطاق واسع عندما تنفد الدولارات التي يستخدمها البنك المركزي في دعم أسعار الخبز والدواء والوقود وهو ما سيحدث عاجلا أو آجلا إذا لم يحصل لبنان على مساعدات خارجية. ويلجأ فقراء طرابلس إلى الاستدانة من متاجر صغيرة في الأحياء القريبة لكن هذه المحال الصغيرة أصبحت بدورها تعاني على جبهتين بعد أن تراكمت ديون الزبائن الذين لا يستطيعون السداد. وتقف كوكب عبدالرحيم وهي مالكة متجر صغير لتشكو وضعا مأساويا بلغته الحركة التجارية في متجرها قائلة “حالة التدين عندي أصبحت يُرثى لها، في السابق كان الناس يعملون ويتلقون رواتبهم ويحرصون على سداد ديونهم حتى لا تتراكم”. وأضافت “لم يعد أحد يعمل حتى يقبض ويدفع، هذا الوضع في حد ذاته خلق أزمة للناس، ولكنه خلق بالنسبة لي أزمتين، فالتجار لم يعودوا يمنحونني بضاعة، ولم يعد معي نقود تكفي للشراء”. لكن عبدالرحيم أبقت على الاستدانة متاحة للزبائن على الرغم من ضائقتها، مؤكدة أنها تعجز عن رد من يقصدها. وفقدت الليرة اللبنانية 80 في المئة من قيمتها منذ تفجرت احتجاجات شعبية في أكتوبر الماضي على النخبة التي تحكم البلاد على أسس طائفية. وفي الوقت الذي يغذي فيه الفقر المتسارع مشاعر الغضب واليأس والخوف من انفجار اجتماعي، يبدو أن جهود النخبة الحاكمة في لبنان لإنقاذ البلاد من انهيار مالي بمساعدة صندوق النقد الدولي تسير في الاتجاه العكسي. وفي لبنان الذي اشتهر وسط بلدان الشرق الأوسط بأنه سويسرا الشرق، بات الفقر ينذر بعواقب وخيمة يتبدى في صور مواطنين يستجدون في الشوارع أو ينبشون القمامة بحثا عن شيء يصلح للأكل أو يقايضون أثاث بيوتهم بالطعام. وتقف مريم خالد مقصود (48 عاما) تحت سقف مطبخ متداعي ينذر بالانهيار، قائلة “نحن ستة أفراد في المنزل، أنا زوجي وأولادي صرنا بلا شغل الآن، وإذا استمر الوضع على هذا الحال لا أعلم ماذا سيحل بنا”. وفي صالة منزلها وهي عبارة عن ممر ضيق لا يدخله النور، جلست مريم تمعن في شرح وضعها معلنة التنازل عن غذاء من اللحوم والدجاج لعدم القدرة على تأمينه بأسعار مرتفعة. مضيفة “استغنينا عن كل شيء، اللحوم بأنواعها.. الوضع سيء وكل أهل الحي يعانون نفس الأوضاع، كلنا مضطرين للاستدانة من أجل شراء الخبز والبيض”. وبدموع تنهمر على وجنتيها طيلة حديثها مصحوبة بمشاعر خوف من مستقبل مجهول، تقول مريم إنها بدأت تعتمد على التقنين في كل شيء للبقاء “مثلا كنت أغسل في الأسبوع ثلاث مرات، الآن أقلص الغسيل إلى مرة واحدة”.
مشاركة :