جائحة كورونا وعجز الدول عن التوصل إلى علاج لهذا الفايروس المستجد يدفعان الحكومة المصرية إلى المصادقة على قانون “التجارب السريرية” المثير للجدل كي يتسنى للمؤسسات العلمية توسيع مجالات بحوثها الطبية حول الأمراض المزمنة. ورغم الإمكانيات الواعدة لهذه التجارب إلا أنها تثير الخوف والقلق من تحول الفقراء إلى “فئران تجارب” للجهات البحثية وشركات الأدوية التي لا تعترف بالحدود الأخلاقية والاجتماعية والقانونية. صادق مجلس النواب المصري، على قانون تنظيم البحوث الطبية الإكلينيكية، المعروف بـ”التجارب السريرية”، بعد سنوات من الجدل الاجتماعي والديني والطبي، حول آلية حماية الفئات الفقيرة من التحول إلى “فئران تجارب” للجهات البحثية وشركات الدواء المحلية ومتعددة الجنسيات. وفرضت جائحة كورونا وعجز الدول عن التوصل إلى عقار مناسب على الحكومة المصرية إخراج قانون التجارب السريرية من أدراج البرلمان، لتتم المصادقة عليه ودخوله حيز التنفيذ، كي يتسنى للمؤسسات العلمية البدء في التوسع في مجالات البحوث الطبية حول الأمراض المزمنة. وأجرت القاهرة عددا كبيرا من الاختبارات والبحوث السريرية لتقييم فاعلية بروتكولات العلاج التي يتم استخدامها بالمستشفيات خلال جائحة كورونا، لكن ذلك تم بناء على موافقة لجنة الأخلاقيات الطبية في حدود ضيقة لغياب الغطاء التشريعي، وهو ما عرقل التفكير في اختراع عقار مصري بمشاركة أجنبية. وبرغم أن القانون يتضمن نصوصا صارمة تحفظ حقوق المرضى المفترض أن يخضعوا للتجارب، لكنه أثار الكثير من المخاوف الطبية والحقوقية والاجتماعية، بحكم أنه من الممكن بسهولة التحايل على أي تشريع، واستغلال ثغراته لتحقيق أغراض مشبوهة وغير أخلاقية يصعب ضبطها بسهولة. الموافقة المستنيرة من الصعب خلخلة أو تليين مواقف الشريحة التي تستدعي الرأي الديني ولا تريد التعامل مع المشاركة في الأبحاث الطبية كواجب إنساني من الصعب خلخلة أو تليين مواقف الشريحة التي تستدعي الرأي الديني ولا تريد التعامل مع المشاركة في الأبحاث الطبية كواجب إنساني عندما قدمت الحكومة القانون للبرلمان اشترطت الحصول على موافقة واضحة من المرضى قبل إجراء البحوث الطبية عليهم، من قبل الجهات المحلية أو الشركات متعددة الجنسيات، وتناست أن معدلات الفقر في المجتمع تجاوزت 40 في المئة، في حين أن نسبة الأمية تتخطى 35 في المئة. ويتخوف الرافضون للقانون، من أن يتم استغلال حاجة البسطاء لإغرائهم ماديا مقابل الخضوع لتجارب سريرية من قبل شركات الأدوية، وبالطبع فإن الكثير منهم سوف يتهافت للحصول على المال لتأمين حياة أفراد أسرته، في ظل الضغوط المعيشية وارتفاع الأسعار وزيادة الأعباء على كاهل أرباب الأسر. ومن غير المستبعد أن تكون الفئات الأمية، أكثر عرضة للإغراء والقبول بالشروط والمعايير دون وعي أو تفكير بخطورة وتأثيرات الخضوع للتجارب السريرية، أي أن هذه الشريحة يصعب معها الموافقة بناء على مواقف مستنيرة أو عن قناعة وفهم بما يمكن أن تتعرض له خلال فترة البحث أو في المستقبل. محمدالعماري: القانون وضع ضوابط لحماية الفقراء من الاستغلال محمدالعماري: القانون وضع ضوابط لحماية الفقراء من الاستغلال ما يبرهن على ذلك، أن هناك أشخاصا لا يمانعون حتى ببيع جزء من أعضائهم مقابل الحصول على مبالغ مالية، وهؤلاء يسهل إقناعهم بالخضوع للتجربة السريرية، حتى لو كان ذلك ضمن شروطها المحددة وفق القانون، وعدم دفع أموال نظير موافقتهم على المشاركة في البحث الإكلينيكي. وحدد القانون مجموعة معايير لحماية الفئات الأكثر احتياجا من استغلال ظروفها المعيشية، ومنح الجهات الصحية والرقابية التحري بدقة وصرامة عن ذلك، لكن يصعب أمام انتشار حالات تجارة الأعضاء، التحكم في مسار عملية البحث بشكل يضمن التعامل بشكل أخلاقي، لأن ثمة فئة اعتادت أن يكون جسدها مصدر دخلها. وقال محمد العماري رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب المصرية، لـ”العرب”، إن القانون وضع نصوصا كافية لحماية الأشخاص الفقراء من الاستغلال، وهناك عقوبات صارمة على الجهة البحثية إذا ارتكبت هذه المخالفة، لكن الأهم أن يكون هناك وعي مجتمعي يساعد الدولة على جني ثمار هذا القانون. وتعوّل الحكومة على قانون التجارب السريرية في أن تتحول مصر إلى مركز إقليمي للأبحاث الطبية في الشرق الأوسط، تحت مظلة تشريعية منضبطة، تحول دون إجراء تجارب غير شرعية على المواطنين، عن طريق وسطاء محليين أو شركات أجنبية. والأهم، أن تكون مصر شريكة في الأبحاث الطبية التي تستهدف إنتاج عقاقير طبية لعلاج أمراض مزمنة ومستعصية عالميا، حتى يكون لها حضور دولي في المجال الطبي، وتحصل على العقار بأسعار مخفضة مستقبلا، بحكم أن مواطنيها سيساهمون في التوصل إليه، بحكم خضوعهم لتجارب سريرية. وأضاف العماري “قانون البحوث الإكلينيكية أعطى لمصر الحق في أن تشارك مؤسساتها الطبية والبحثية الشركات الأجنبية في مراحل إنتاج العقاقير، لتحقيق المزيد من الانضباط، ويكون للدولة التي استضافت التجارب السريرية الحق في الحصول على العلاج بالأسعار التي تناسب مواطنيها”. تاريخ سيء بعض الفئات الاجتماعية اعتادت أن يكون جسدها مصدر دخلها المالي بعض الفئات الاجتماعية اعتادت أن يكون جسدها مصدر دخلها المالي غير أن الكثير من الشركات متعددة الجنسيات تتعامل مع المجتمع المصري، على أنه بيئة خصبة لاستقطاب الأفراد الذين يتم إجراء البحوث عليهم، لأسباب كثيرة على رأسها الفقر والجهل، ما اعتبرته الحكومة أمرا يسيء إلى سمعة مواطنيها، ويتطلب التصدي بحسم عبر غطاء تشريعي ينظم مجال الأبحاث الطبية وفق معايير دولية. وكانت تقارير طبية منسوبة لمنظمة “بابلك آي” السويسرية، تحدثت قبل أربع سنوات عن أن مصر تحتل المرتبة الثانية أفريقيا في التجارب السريرية غير الشرعية، حيث أن شركات الأدوية تستغل عدم القدرة المالية للكثير من المصريين في الحصول على العلاج، واستخدامهم حقول تجارب، عبر إجراء البحوث الإكلينيكية. وذكرت تقارير أخرى، أن موافقة المرضى في مصر على إجراء التجارب السريرية، يتنافى مع المعايير الدولية وغالبا ما يكون بعيدا عن أعين المؤسسات الصحية الرسمية في البلاد، ومعظم المرضى لا يدركون المخاطر جراء هذه التجارب، ولا يعرفون أن بعض الشركات تستغلهم في أبحاثها. ويشترط القانون، على الجهة البحثية أو شركة الأدوية التي ترغب في الاستعانة ببعض الأشخاص لإجراء تجارب عليهم، أن تؤمن لهم مستقبلهم، من خلال بوليصة تأمين على الحياة، ضد المخاطر والمضاعفات، وحددت عقوبة السجن المشدد والغرامة المالية في حال وفاة المبحوث أو تدهور حالته. وأكد محمد عزالعرب، أمين صندوق جمعية سرطان الكبد المصرية، لـ”العرب”، أن قانون التجارب السريرية أغلق الباب أمام استغلال الشركات الأجنبية لأفراد مصريين لإجراء فحوصات عليهم، ووضع نصا واضحا بحتمية مشاركة مواطنين من دولة الشركة الأم، في التجارب. فإن كانت ألمانية وتريد إجراء تجارب داخل مصر، فعليها أن تُدخل مواطنين من ألمانيا مع المصريين كنوع من المساواة. محمد عزالعرب: تحسيس الناس بفوائد القانون يعود بالنفع على المجتمع ككل محمد عزالعرب: تحسيس الناس بفوائد القانون يعود بالنفع على المجتمع ككل ويرى مؤيدو التشريع، أن القضاء على استغلال حاجة البسطاء للمال، يتطلب إجراء الفحوصات الطبية الإكلينيكية في مراكز وجامعات ومستشفيات حكومية، لأن الرقابة عليها أشد صرامة، بعكس الأماكن الخاصة التي يصعب فيها تطبيق معايير منضبطة على المستوى الإنساني والمهني والأخلاقي. ويؤكد الداعمون للتجارب أن إدخال أجهزة الاستخبارات المصرية، كجهة رقابية أساسية على تطبيق نصوص القانون دون التلاعب بها على حساب الفقراء، نقطة مضيئة تُحسب للحكومة، لأن هذه المؤسسات مشهود لها بالنزاهة والمصداقية والأمانة، وتستطيع قبول أو رفض الجهات الأجنبية التي تريد القيام بالأبحاث داخل مصر، حتى لا يتم السماح لشركات متورطة في تجارة الأعضاء استغلال المواطنين. وتلجأ بعض البلدان التي تطبق التجارب السريرية، إلى منع الاستعانة بالأفراد الذين يجهلون القراءة والكتابة، كي لا يتم استغلال جهلهم بالقانون والحقوق، بحيث تكون هناك ضمانة حقيقية لإبعاد هذه الشريحة عن الوقوع في فخ منظمات تحترف استقطاب الشريحة منعدمة الوعي والمعرفة. وبحكم أن المجتمع المصري ترتفع فيه نسبة الأمية، يمكن التغلب على هذه الثغرة، بأن تتولى الجهات الرقابية على القطاع الطبي والبحثي، مهمة عقد اختبارات شفهية للأفراد الراغبين في الخضوع للأبحاث، للتأكد من سلامة قناعتهم الشخصية ومعرفتهم بتبعات هذا القرار، والوقوف على مدى تعرضهم لضغوط أو إغراءات مالية أو عينية، وشرح المهمة الموكلة إليهم، وإن كانت هناك شبهة ضغوط يتم استبعادهم. وأوضح عزالعرب، وهو أحد من شاركوا في إبداء الرأي الطبي في القانون، أن الأميين وأصحاب الحالات الخاصة، مثل المرضى النفسيين، سوف يتم قبولهم للمشاركة في التجارب السريرية بناء على موافقة أولياء أمورهم الشرعيين، بعد تعريفهم بكل مراحل البحث، والقانون نص على وقف التجربة حال التأكد من تعرض المبحوث لإغراءات مادية. توعية منعدمة أزمات كثيرة تقف في طريق الأبحاث أزمات كثيرة تقف في طريق الأبحاث بالرغم من أن الحكومة تمثل الجهة التي أعدت القانون، إلا أنها لم تفتح حوارا مجتمعيا حول التجارب السريرية أو كما أنها لم تقم بحملات تحسيسية في الغرض، ولهذا فإن أغلب الناس في الشارع لا يعرفون نصوصه أو أهدافه ولا طريقة التعامل مع هذه النوعية من الأبحاث، وسبق أن رفض الرئيس عبدالفتاح السيسي التصديق على هذا القانون وأعاده إلى البرلمان لتعديله. ولا يستبعد الخبراء إمكانية أن يثير هذا القانون أزمة جديدة تحول دون تعاطي المواطنين المصريين بشكل إيجابي مع فكرة الأبحاث الإكلينيكية، بسبب جهلهم لحقوقهم في حالة عُرض عليهم المساهمة في التجارب السريرية، حتى وإن كان المبرر والدافع أن بلادهم ستساهم في إنتاج دواء لأحد الأمراض المزمنة الذي يهدد الصحة العامة للمجتمع المصري. وإذا كانت هناك نسبة قبول وقناعة مجتمعية بحتمية المشاركة في التجارب السريرية كمساهمة إنسانية، فإن ارتفاع الأصوات الدينية الرافضة للأبحاث الإكلينيكية، كفيل بجعل الأغلبية ترفض التعاطي مع الفكرة، بحكم أن الشريحة الأكبر اعتادت أن يتحكم رجال الدين والدعاة في قراراتها. وتجدر الإشارة إلى أن قانون التجارب السريرية أثار جدلا واسعا في صفوف الكثير من رجال الدين من داخل مؤسسة الأزهر ومن خارجها ممن لديهم شعبية كبيرة في المجتمع المصري، وقد تمكن هؤلاء من زرع فكرة أن الخضوع لأي تجربة طبية سوف يستدعي غضب الله عليهم داخل عقول الناس، باعتبارهم سيلقون بأنفسهم إلى التهلكة، في حين أن الله أمرهم بالحفاظ على حياتهم وعدم تعريضها للخطر. وتكمن المعضلة في أن المؤسسة الدينية الرسمية، التزمت الصمت أمام دعوات مقاطعة التجارب السريرية، فلم تؤيد التحريم، أو تفند ادعاءات الأصوات التي تحرض الناس على الرفض، ما جعل الأغلبية تعتقد أن هناك قبولا نسبيا للأزهر ودار الإفتاء، لآراء الفئة التي تتبنى خطاب المقاطعة، لكنهما لا يفصحان عن موقفهما صراحة لتجنب الصدام مع الحكومة. وأشار عزالعرب، إلى أن التوعية المجتمعية بفوائد القانون على المجتمع، إنسانيا وصحيا، تتطلب خطابا حكوميا معتدلا ورصينا يخاطب كل الفئات دون استثناء، لأنه دون هذه الخطوة فإن الاستفادة من البحوث الإكلينيكية سوف تكون بنسب ضئيلة، في حين أن التجارب السريرية كفيلة بتوطين صناعة الدواء بأسعار مقبولة وفي متناول الجميع. لكن يبدو من الصعب خلخلة أو تليين مواقف الشريحة التي تستدعي الرأي الديني ولا تريد التعامل مع المشاركة في الأبحاث الطبية كواجب إنساني، ما يفرض على الحكومة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية والدينية أن تتبنى حملة توعية واسعة لتعريف الناس بالقانون ومزاياه بالنسبة للمجتمع، وآلية تحصين أنفسهم من الوقوع في فخ النصب وتجارة الأعضاء.
مشاركة :