لا شيء يؤكد أن التصريحات الفلسطينية الأخيرة، الصادرة عن قياديين في الحركتين الرئيسيتين، والمتنازعتين على القيادة والسلطة، أي “فتح” و”حماس”، ستفضي إلى عودة الوئام بينهما، وتاليا استعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني، وهو الأمر المرتجى. ومعلوم أننا نتحدث عن انقسام بات له 13 عامًا، كان من آثاره استنزاف طاقات الفلسطينيين في خلافات جانبية، بدل الانشغال في توظيفها في مواجهة التحديات الإسرائيلية المتوالية، كما كان من آثاره إحداث هزّة عنيفة وعميقة ومؤلمة في وجدان الفلسطينيين، إضافة إلى زعزعة صدقية الفصائل الفلسطينية، التي أضحت السلطة أهم بالنسبة لها من الكفاح الوطني، وتعزيز مكانة الفصيل أهم من تعزيز مكانة الشعب. طبعا، لا يمكن لأي فلسطيني إلا أن يتمنى تحرر حركتي حماس وفتح من عقلية السلطة، وأن تصدق الأقوال الصادرة عن قيادتيهما، المتعلقة بطي صفحة الخلاف والانقسام، إلا أن التجربة، أو التجارب، لا تشجع على التسرع في تبني ذلك الاعتقاد، لأسباب عديدة، أهمها: أولاً: سبق لحركتي فتح وحماس أن دخلتا في مفاوضات ثنائية طويلة ومرهقة طوال الـ 13 عامًا، ونجم عن كل واحدة منها اتفاقات تم التوقيع عليها، من قيادات الطرفين، في حفلات، تخللتها مشاهد الاحتضان وتبادل القبلات والابتسامات أمام وسائل الإعلام، هذا كله شهدناه في الاتفاقات التي عقدت في مكة وصنعاء والدوحة والقاهرة وغزة، لكن ولا واحد من تلك الاتفاقات جرى ترجمتها في أرض الواقع. ثانياً: طرحت في التصريحات فكرة التنسيق في الميدان، بمصطلحات حماس، أو “اللقاء في أرض المعركة” بمصطلحات فتح، إلا أن تلك الفكرة لم تنجح ولا مرّة، سيما أنها تأتي كردة فعل، أو كاستعراض موسمي، أو لإبراء الذمة، أي أنها لا تأتي وفق قناعة بضرورة الوحدة الوطنية، أو كنتاج لصوغ برنامج كفاحي مشترك، أو كتتويج لرؤية في تطوير الكيانات والإطارات الجمعية الفلسطينية. ثالثاً: كان لدى قيادة الحركتين، أو السلطتين، وقت طويل، إذ أن ترامب طرح خطته التي تسمى “صفقة القرن”، منذ قرابة ثلاثة أعوام، وبدأ بترجمتها على ارض الواقع، في الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وبتصفية حق العودة للاجئين، وتشريع الاستيطان، ونزع الاعتراف بمنظمة التحرير، والتخلي عن رعاية عملية التسوية، وهو ما تساوق مع ما تطرحه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو، ورغم كل ذلك إلا أن قيادتي فتح وحماس لم تشتغلا بالقدر اللازم لمواجهة هذا التحدي في وقته، ولم تهيئا الشعب لمواجهة هكذا لحظة، على الأقل على مستوى استعادة الوحدة الوطنية، وعلى مستوى إعادة بناء منظمة التحرير. رابعا: منذ سنتين عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته الـ 23، أي أنه كان بمثابة فرصة سانحة لاستعادة الوحدة، ولتأكيد رغبة القيادة الفلسطينية بإعادة بناء المنظمة، إلا أن القيادة الفلسطينية لم تأخذ ذلك في اعتبارها، إذ بدت دورة المجلس الوطني بمثابة مهرجان، بل إنه لم يقدم على أية مراجعة جديدة. في المقابل فإن حركة حماس لم تحاول من جانبها تقديم سلطتها في غزة كنموذج محتذى، ولم تقم في غزة السلطة التي تطالب القيام بها في الضفة. على ذلك فإن عديدًا من التصريحات التي صدرت مؤخرًا، هي مجرد اجترار من شعارات وتصريحات مكررة، ولا جديد فيها، سوى استمرار الوعيد بزلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، فيما الأرض تتزلزل تحت أقدامنا، نتيجة هيمنة إسرائيل على حياة شعبنا، وسيطرتها على التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية له، وضمن ذلك نشرها المستوطنات، وقضم الأراضي، وإنشاؤها الجدار الفاصل، وسيطرتها على المعابر. والقصد أن تصريحات مثل أن الضم هو “إعلان حرب”، يشي وكأن الاحتلال ذاته ليس إعلان حرب، أو كأننا لم نكن في ظل احتلال، أو كأن الشعب الفلسطيني قبل الضم كان على ما يرام. كذلك القول بأن “إسرائيل تعد أيامها الباقية”، هو كلام رغبات مع الأسف، ولا يلاحظ الواقع القائم، وضمنه الاختلال الكبير في موازين القوى، على كافة الأصعدة، وضمنها المعطيات الدولية والعربية. أما الحديث عن “حل السلطة، وأن إسرائيل ستشتغل في الكناسة… أو في تجميع القمامة، بعد الضم، فينم عن سذاجة، ناهيك أنه ينم عن استخفاف بعقول الناس، إضافة إلى أنه يلخص بطريقة مبتذلة أهمية وجود السلطة بالنسبة لإسرائيل، أي يحاول ابتزاز إسرائيل بدلالة ما تعفيها السلطة منه، إزاء الفلسطينيين. باختصار، قبل الضم أو بعده، فهذا الأمر بالنسبة للفلسطينيين يفيد بكشف إسرائيل على حقيقتها، وينزع الحجاب الذي تتستر وراءه، إذ أن الأمر لن يختلف كثيرا بالنسبة لواقعهم، تحت الهيمنة الإسرائيلية، كما أن هذا الأمر يعني أن إسرائيل قوضت نهائيا اتفاق أوسلو، الذي كانت تملصت منه في مفاوضات كامب ديفيد2 (2000)، وأيضا فهي تعلن دفن خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، لصالح خيار الحكم الذاتي للفلسطينيين في بعض مناطق الضفة وفي غزة. وعليه لا يمكن مواجهة سياسات إسرائيل بمجرد تصريحات أو شعارات أو رغبات، هذا يتطلب توفير الظروف التي تمكن من استنهاض الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إعادة بناء البيت الفلسطيني، واستعادة الرؤية الوطنية الفلسطينية، كحركة تحرر وطني، وليس كسلطة، تكافح مشروعًا استعماريًا واستيطانيًا وعنصريًا، في استعادة للرؤية الوطنية الجمعية التي تطابق بين الأرض والشعب والقضية.
مشاركة :