ماجد كيالي يكتب: عن أحوال الثقافة والمثقفين في الساحة الفلسطينية

  • 9/25/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ليست علاقة الثقافة والمثقف بالسياسة وبالسلطة عند الفلسطينيين، أحسن من مثيلاتها في العالم العربي، بالنسبة لارتهانها لعلاقات القوة والهيمنة والسلطة، وللتحيّزات السياسية، والشعارات الجمعية. إضافة إلى ما تقدم فإن هذه العلاقة كانت على درجة كبيرة من الهشاشة، بحكم حرمان المجتمعات الفلسطينية من الفضاء الثقافي الخاص بها، وغياب الحيّز الاجتماعي الموحّد لها، وخضوعها لفضاءات وسلطات ثقافية مختلفة ومتباينة، في مناطق اللجوء والشتات؛ إذا استثنينا حالة فلسطينيي 48 (كردة فعل على محاولات التذويب والتغييب والإلحاق الإسرائيلية). هكذا ليس للفلسطينيين حيزات أو فضاءات جامعة، لا صحيفة يومية، ولا إذاعة وقناة تلفزيونية ومكتبة ومعرض ومسرح، كما لا مدرسة وجامعة، إذ كل ذلك يتواجد في إطارات محلية، في الضفة وغزة؛ هذا برغم صعود نجم عديد من الفلسطينيين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم، في فضاءات الفكر والشعر والرواية والقصة والفن والمسرح والسينما والبحث والصحافة (كإدوارد سعيد ومحمود درويش ومعين بسيسو وهشام شرابي وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ووليد الخالدي ويوسف وأنيس صايغ وشفيق الحوت وسليم سحاب وإسماعيل شموط ومصطفى الحلاج وحسين نازك، مثلاً). والواقع أن هذه الكوكبة من الفلسطينيين صعدت بسبب مواهبها، وإبداعاتها، ومثابرتها على تحدي الواقع الذي ألمّ بشعبها، وعنادها في مواجهة عمليات الإنكار والتهميش، أي بمعزل عن وجود حالة ثقافية مؤسّسية، داعمة. الجدير ذكره، مع انطلاقة حركة التحرر الوطني (أواسط الستينات)، بات يمكن الحديث عن نشوء حيز ثقافي فلسطيني خاص (بالمعنى النسبي)، موازٍ للحيز السياسي “المستقل”، الذي نشأ و”اصطنع” مع وجود الفصائل الفلسطينية المسلحة، في بعض البلدان العربية، ولاسيما في لبنان. لكن هذا الحيز، على رغم أهميته، قصر عن التغلغل في مختلف التجمعات الفلسطينية، لصعوبة ذلك، ذاتيا وموضوعيا. أيضاً، أحاطت بعملية خلق هذا الفضاء الثقافي الخاص مشكلات وسلبيات، أهمها، طغيان الطابع العاطفي/الشعاراتي/العسكري على الفصائل، على حساب طابعها العقلاني /السياسي/الجماهيري. وهيمنة العلاقات الأبوية والمزاجية فيها بدل العلاقات المؤسسية والديموقراطية. وسيادة نمط التعامل الفوقي مع المجتمع، وضعف المشاركة السياسية، وتفشي روح الوصاية الفصائلية على القضية والشعب. وفاقم ذلك سيطرة الاتجاه المحافظ في الساحة الفلسطينية الذي حدّ من إمكان تخليق ثقافة حداثية فيها؛ برغم أنها كانت تعجّ بالشعارات والأيدلوجيات (الوطنية والقومية والدينية واليسارية)؛ بما هي شعارات وأيدلوجيات رغبوية وإرادوية لا نقاش فيها. في الممارسة العملية فقد استخفت الفصائل، التي تخضع لسلطة «الأبوات»، بالثقافة، وبالعاملين في حقلها (بأنواعه الفكرية والأدبية والبحثية والفنية)، وهي التي روّجت لقولات من نوع: “اللقاء في أرض المعركة”، و«زغرد بربك يارصاص واخرس بربك يا قلم»! و”النظرية تنبع من فوهة البندقية”! وكان عدد أجهزة الأمن، وموازناتها أكثر وأكبر بكثير من عدد مراكز الأبحاث والمراكز الثقافية، وكان للأبوات وقادة الأجهزة العسكرية والأمنية الدور المقرر في صياغة الساحة الفلسطينية بشعاراتها وبناها، وأشكال عملها، وحتى أن بعض هؤلاء باتوا مقررين بشؤونها الثقافية، أو ما يصلح لذلك وما لا يصلح! وبرغم تمكن الفصائل، في تلك المرحلة، من استقطاب وإنتاج عدد كبير من المثقفين والباحثين والصحافيين والفنانين (كناجي علوش ومنير شفيق وداوود تلحمي وجميل هلال ويحيى يخلف ورشاد أبو شاور وأحمد دحبور وخالد أبو خالد وحسن البطل وبلال الحسن وماجد أبو شرار ومنير شفيق ونزيه أبو نضال، مثلاً)، بفضل الصحف والمجلات والكتب التي أصدرتها، إلا أنها لم تـنجح في نسج علاقات تفاعلية وتداولية، وتوليدية معهم، فهذه العلاقة ظلت مشوبة بنوع من التوجس والاستخفاف، أو من الكره والحذر، في آن معا. وفي ظل هذه الأوضاع تموضعت الثقافة والعاملين فيها ضمن قوالب معينة، بحيث تحددت وظيفتها مسبقا في الدعاية والتحريض. وبذلك باتت الثقافة، بالنسبة للفصائل، مجرد ملحق بها، للتبرير والتجميل، وليس للفحص والنقد والتدبير. وبات المثقفون في الفصائل، في معظم الأحوال، مجرد ديكور أو تابع، بدل أن يكونوا قلبها وروحها الحيّة والمجدِّدة. أما خارج ذلك، أي خارج علاقات الامتثال والتماثل فكانت علاقة المثقف الفلسطيني بالقيادات الفصائلية علاقات متوترة، ومتنابذة، ولم تكن علاقات تكامل وتعاضد. وأمثلة ذلك كثيرة، في علاقة القيادة الفلسطينية بمركز الأبحاث ورئيسه أنيس صايغ، وبالأمين العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين ناجي علوش، وبإدوارد سعيد، مثلاً، كما في علاقة هذه القيادة الفوقية بكل المؤسسات الثقافية والبحثية، التي عملت على تهميشها، على الرغم من إنها كانت تعمل تحت رعايتها. أما بالنسبة للعلاقة بالثقافة والمثقفين خارج الفضاء الفصائلي الفلسطيني فلم تكن ايجابية البتة، إذ هيمن المجال الثقافي الفصائلي، على المشهد الفلسطيني، بفضل تمتع العاملين فيه بموارد سلطوية، معنوية ومادية، وليس بفضل المواهب والابداعات، وهي إن لم تكن قليلة على أي حال، إلا أنها لا تعطي أحدا الحق باحتلال كامل المشهد الثقافي الفلسطيني، أو حجب واستبعاد المشهد الثقافي غير الفصائلي. في كل الأحوال فإن الثقافة الفلسطينية التي ارتكزت على الشمولية، وقدست السلاح والقضايا، على حساب الناس وتطور المجتمع، أدت إلى طمس الصوت الخاص والمتفرد للمثقف، بدعوى ثقافة “الالتزام”، على حساب ثقافة الحرية والإبداع، وثقافة التطوير والتغيير والتحديث. في هذه الحالة لم يكن ثمة مجال للمثقف المستقل (بمعنى عن الفصائل) لتوليد حالة ثقافية خاصة، فليس ثمة سلطة البتة لهكذا مثقف، ليس له صحيفة ولا منبر ولا جامعة، وهو بالأصل ليس له مجتمع محدد في حيز جغرافي خاص به. ومعلوم أن سلطة المثقف تستمد من جمهوره، أو من قرائه ومتابعيه، ومثلما أن المثقف العربي، يفتقد لهكذا سلطة، بواقع تدني نسبة القراءة والاهتمام بالثقافة في المجتمعات العربية، وبواقع هيمنة السلطة السياسية على الحيز الاجتماعي، فإن وضع المثقف الفلسطيني أكثر تعقيدا، وأكثر صعوبة. هكذا فإن أزمة الثقافة، والعلاقة بين المثقف والثقافة وبين السلطة، هي نفسها أزمة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهي أزمة وعي لمشروع المواطنة والحداثة والديموقراطية، وما يتعلق بالواقع العربي يشمل الواقع الفلسطيني أيضاَ؛ برغم كل الضجيج عن حركة التحرر الوطني، وعلى الضد من مستلزماتها.

مشاركة :