لم تعد البيئة الدولية والإقليمية والعربية مهمومة بالقضية الفلسطينية، فالدول الكبرى منشغلة بتدارك مفاعيل الأزمة الاقتصادية عليها، وبالكوارث البيئية، وجائحة كورونا، وبمخاطر العمليات الإرهابية، وتزايد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وبصعود الصين، وسياسات بوتين. وعلى الصعيد الإقليمي ثمة عدم استقرار في توازن القوى، أو نوع من مرحلة انتقالية، بانتظار التوافق على تموضع مكانة إيران (وتقرير مصير مشروعها النووي)، على مستوى المنطقة، وضمن ذلك تحجيم نفوذها في المشرق العربي؛ في ظل تخوّف من إمكان حسم ذلك عبر حرب إقليمية، أو حرب قد تشعلها إسرائيل على هذه الجبهة أو تلك، كما ثمة تصاعد للنفوذ التركي، ناهيك عن تموضع إسرائيل كالدولة الأكثر استقرارا في الإقليم من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية. وعلى الصعيد العربي فإن الأحوال تبدو غير مستقرة، على خلفيات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، سيما منذ اندلاع الثورات في أكثر من بلد، ومع انقسام النظام العربي على نفسه إلى محاور وانشغالات متعددة مختلفة ومتباينة. طبعا يأتي ضمن ذلك، أيضا، الوضع الفلسطيني المنقسم على ذاته، حيث سلطة فتح في الضفة وسلطة حماس في غزة (منذ 14 عاما)، وحيث ثمة تآكل في شرعية السلطة والقيادة الفلسطينية، مع أفول مسار التسوية، أو مسار ما يعرف بحل الدولتين، مع تعذر إمكانية إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع (1967). القصد من ما تقدم أنه آن الآوان لإدراك حقيقة مفادها بأن القضية الفلسطينية، على أهميتها، لم تعد بمكانة القضية المركزية للأمة العربية، ولا على المستوى الإقليم، إذ بات ثمة قضايا أخرى أكثر أهمية، وأشدّ اشتعالاً، وأكبر خطورة منها، كما بينّا. وثمة مفارقة تتجلّى بأن القيادات الفلسطينية (بكل تلاوينها)، والتي طالما استمرأت التلويح بأن عدم حل قضية فلسطين سيهدّد الأمن والاستقرار في المنطقة، باتت الأحرص على ضمان هذا الاستقرار في الإقليم الذي تسيطر عليه، سواء في الضفة، أو في غزة. ودليل ذلك أن هذه المناطق، في ظل سلطتي فتح وحماس، لم تعد تشهد أي شكل من أشكال المقاومة، ولو حتى على مستوى الأشكال الشعبية، التي كانت تشهدها الأراضي المحتلة قبل قدوم فصائل المقاومة (إثر اتفاق أوسلو)! وقد لاحظنا أن المنطقة الأكثر سخونة في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي باتت في القدس، حيث تغيب سلطتا فتح وحماس، كما شهدنا مؤخرا. وهذا الواقع هو الذي جعل إسرائيل تعرّف السنوات القليلة الماضية باعتبارها أهدأ السنوات في تاريخها؛ وهذا هو وضع “الاحتلال المريح” والمربح الذي طالما سعت إليه إسرائيل من وراء إقامة السلطة بموجب اتفاق أوسلو (1993). الآن، ومع تدنّي الاهتمام، الدولي والعربي، بالقضية الفلسطينية، ووضعا من الانقسام في كيانها (بين الضفة وغزة)، وبين فتح وحماس، فإن ماينبغي أن تدركه القيادات الفلسطينية، أيضا، إنها تواجه، عدا عن كل ماتقدم تحديات أكبر، واخطر. مثلا، فإن القيادات الفلسطينية تواجه، اليوم، تحدي انفصام علاقتها باللاجئين الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، حيث ليس ثمة أية توسطات سياسية، بينها وبينهم، فمنظمة التحرير تكاد تكون في عالم النسيان، أما المنظمات الشعبية فانحصر تمثيلها، على الأغلب، في فلسطينيي الأراضي المحتلة. وعلى الصعيد السياسي ليس ثمة أي تمثّل لقضية اللاجئين في المفاوضات الجارية، باستثناء بعض الكليشيهات الاستهلاكية المستخدمة لتبريد الخواطر، حيث التركيز فقط على إقامة دولة في الضفة والقطاع، ولأن المفاوضات، في ضوء المعطيات السائدة، بالكاد تنجب ذلك. ومعنى ذلك أن القطيعة الفلسطينية ليست بين الضفة وغزة فقط، وإنما هي بين الداخل والخارج، أيضا، كما ثمة نوع من قطيعة بين الطبقة السياسية المتسيّدة وبين الشعب، بخاصة الأجيال الجديدة من الشباب، التي باتت محبطة من السلطة، ومن طريقة عمل الفصائل، الأبوية والمزاجية والزبائنية، والتي تفتقد لأي حراك سياسي داخلي. وكما لم يعد بمقدور القيادات الفلسطينية النوم على فرضية أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية، فإنه لم يعد بمقدورها أيضا النوم على فرضية أن منظمة التحرير، أو الفصائل، هي التي تمثل الشعب الفلسطيني، أو تعبر عنه. ومثلا، من الذي يمثل الفلسطينيين السلطة أم المنظمة؟ ثم أي سلطة؟ أهي سلطة فتح في الضفة أم سلطة حماس في غزة؟ وإذا كانت المنظمة فعلى أي أساس؟ ثم أين هي هذه المنظمة وكيف تعمل وماهي آليات اتخاذ القرار فيها، وكيف يجد الفلسطينيون، بمختلف أماكن تواجدهم، أنفسهم من خلالها؟ ثم على ماذا يجمع الفلسطينيون اليوم؟ وماهي حقا ماهية المشروع الوطني الفلسطيني؟ أو ما الذي تبقى منه؟ وبعد كل ذلك، ألم يحن الوقت كي تخرج القيادات الفلسطينية من توهّماتها ومتاهاتها؟ القصد من كل ذلك أن الاتجاه أو الجهد المركزي، لاستعادة صدقية القضية الفلسطينية، واستنهاض شعب فلسطين، ينبغي، أو الأجدى، أن ينصب في إعادة بناء البيت الفلسطيني، من مدخل الانتخابات (للمجلسين التشريعي والوطني)، علما أن ذلك لا يشكل الحل الكافي، لكنه بمثابة الشرط اللازم، أو الممهد لإحداث تغيير سياسي فلسطيني حقيقي.
مشاركة :