حين تعبّر الألوان عن الفرد والمجتمع حد الانفجار | حنان مبروك | صحيفة العرب

  • 7/7/2020
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

بمجرّد عودة الحياة الطبيعية للمؤسسات الثقافية التونسية وإنهاء فترة الحظر التي استمرت ثلاثة أشهر لمواجهة فايروس كورونا، سارعت دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة تونس إلى إعادة برمجة أنشطتها الفنية، ومن بينها معرض “حرية مشبوهة” للفنانة التشكيلية آمال بن صالح زعيم الذي أقيم من 18 يونيو الماضي إلى 3 يوليو الجاري. تونس – جاء معرض “حرية مشبوهة” للفنانة التونسية آمال بن صالح زعيم الذي أقيم بدار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة تونس في ظرفية عالمية ومحلية صعبة تتخلّلها اضطرابات سياسية في تونس ودول الجوار عمّقتها أزمة وباء كورونا، ليبحث في ماهية الحرية ومفهومها لدى الشعوب “المتحرّرة” حديثا من الأنظمة المستبدة، التي حرمتها الحرية في حين وفّرت لها مناخا من الأمن والرخاء. انطلاقا من هذه الفكرة اختارت آمال بن صالح زعيم عنوان معرضها السنوي، إذ تقول الفنانة لـ”العرب” إنها لا “ترى في المجتمعات العربية على الأقل فهما حقيقيا وواضحا ومسؤولا للحرية، بل هي حرية منقوصة طالما لم ترتبط بالأمن ولم تهب الإنسان الشعور بالاطمئنان للحياة داخل بلده، سواء كان مصدر هذا الاطمئنان الاستقرار السياسي أو الاقتصادي اللذين ينسحبان بالضرورة على بقية القطاعات في الحياة”. والفنانة التونسية التي التزمت منذ العام 2007 التعبير عن الحياة الإنسانية وما تحتويه من قضايا حارقة تحرّض مخيلة الفنان ليصرخ بها في وجه العامة والمثقفين، اختارت هذه السنة أن تعتمد في لوحاتها السبع عشرة على مزيج من اللون الأسود والأبيض والأحمر فقط، حتى أنها جعلت إحدى لوحاتها سوداء كالليل الحزين، تحمل عنوان “الوضع الحالي” فصادفها الحظ بأن اقتنتها وزارة الثقافة التونسية، وسط استغراب الفنانة التي تقول “إن اقتناء لوحة أحادية اللون يعدّ سابقة من نوعها على لجنة شراءات الفنون التشكيلية بتونس، حيث لم تعتد سابقا اختيار لوحة أحادية اللون أساسها اللون الأسود”. المتأمل لمعرض زعيم بكلّ لوحاته، وأحجامها المختلفة، وربما بعودته إلى عناوين اللوحات المنتقاة بدقة، قد يفكّ اللغز الذي جمع ثلاثية الأسود والأبيض والأحمر في أغلب رسومات المعرض، إذ عكس فيها امتزاج اللونين الأسود والأبيض ثنائية التضاد التي تقوم عليها الحياة بين معرفة وجهل، خير وشر، ظلام ونور وحياة وموت، ثنائيات وصراعات يعيشها الإنسان بشكل فردي وجماعي، تحكّمت كلها في مسار الشعوب، فدفعت بعضها إلى فهم الحرية في الإقدام على الأعمال الانتحارية لنصرة المعتقد، فيما أدرك آخرون أن الحرية هي أن يكون لهم وجود فاعل وبنّاء في المجتمع مع تقبّل الآخر بكل اختلافاته. وليس الأسود مجرّد لون في حياة آمال، تلك الفنانة التي تعرّضت لوحاتها في العام 2006 إلى الحرق، ولم يتبقّ منها سوى “رفات” وظّفته بتمرّد على قوى الظلام كي تصنع منه “أسود” صارخا في وجه الآخر، يعلن عن نهاية مرحلة فنية وولادة أخرى. ومنذ معرض “تمرّد ثائر” الذي نظّمته في العام 2007 ببقايا لوحاتها المحروقة وبأعمال أخرى أساسها الحرق، أعلنت آمال عن بداية تشكيلها للألوان والأعمال الفنية برؤية مغايرة تلتزم بصراعات الإنسان ومعاناته داخل مجتمع يرفض الآخر المختلف. آمال بن صالح زعيم أعلنت منذ بدايتها عن رؤية مغايرة تلتزم بصراعات الإنسان ومعاناته داخل مجتمع يرفض الآخر المختلف وكما أنّ الفنانة التشكيلية تعمّدت رسم لوحات سوداء كالموت، إلاّ أنها جعلت من لوحات أخرى ذات أساس أبيض رغم اضطرابه الظاهر، في إشارة منها إلى أنّ بصيص الأمل والنور لا يختفي من الحياة وأنّ شمس التفاؤل والحياة والحرية لا تغيب، إلاّ إذا أغمض الإنسان عينيه عنها عمدا. وجاء اللون الأحمر في لوحات آمال بن صالح زعيم كرسالة على الاضطرابات والتساؤلات التي يعيشها الإنسان وتسبق لحظة تحرّره من المفاهيم المغلوطة ومن المعتقدات المتوارثة، إنها رسالة الغضب على السائد والحرب على كلّ واقع لا ينتصر للإنسان وحقه في حياة حرة وآمنة، رسالة تمرّد الإنسان لرسم صورة جميلة عن الحرية فردية كانت أو جماعية. ولم تنفصل عناوين اللوحات عن معاني ألوانها، بل اختارت لها الفنانة التونسية عناوين دقيقة كـ”ورم” و”اغتيال” و”انتهاك” و”اشتباك” و”تشنجات” و”حالة حرجة” وغيرها.. وجاءت لوحاتها بتقنيات مختلفة تتوزّع بين الكولاج “التلصيق” وبين الرسم بالألوان الزيتية على القماش والأكريليك، وهو الحال بالنسبة للوحة “الحركة” التي رسمتها بتقنية الأكريليك واحتلت الترقيم الثاني من بين أعمالها المعروضة. تقول آمال بن صالح زعيم لـ”العرب” إنّ لوحة “الحركة” تعبير عن “حركة النهضة التونسية ومحاولاتها لإجهاض كل بوادر التحرّر الفعلي والتمرّد الفردي والجماعي على الضوابط المجتمعية التي تفرض على جميع الفنون الالتزام بحدود في التعبير”. وتوضّح زعيم أنّ في “أعمالها الفنية استشراف لما تعيشه تونس من تهريج سياسي تحت قبة البرلمان ومن صراع على السلطة ومحاولات للسيطرة على مسار تفكير المجتمع وثرواته الفنية واللامادية”، وترى أنّ معرض “حرية مشبوهة” استشراف لمحاولات توظيف النفوذ السياسي لصالح جهات محدّدة حتى في زمن الأزمات المفاجئة التي تكاد تعصف بالشعوب كأزمة وباء كورونا. وغير بعيد عن “الحركة” تبرز لوحة في شكل وردة سوداء جميلة اعتمدت فيها الفنانة التشكيلية تقنية الكولاج، إلاّ أنها لا تعبّر عن الوردة بمفهومها الجمالي المتعارف عليه، بل هي تعبير عن “دوامة النفايات”، دوامة علّقتها الفنانة بجوار لوحة “الاعتراف” في ثنائية فنية تنير بصيرة الإنسان وتعلّمه أن ليس كل جميل ثمينا، بل ربما تجمعنا الحياة بمظاهر خادعة لأشخاص وأحزاب سياسية ودينية لا يعكس ظاهرها باطنها ولا يشبه مشروعها العلني ترتيباتها الخفية. وتبدو آمال بن صالح زعيم مؤمنة في “حرية مشبوهة” بأنّ الشعوب العربية والتونسيين خاصة لم يتمكنوا بعد من إدراك الحرية وفكّ رموزها ودلالاتها، بل ربما بلغوا مرحلة أن يكونوا أحرارا في التفاخر بالاختلاف فقط، لكنهم مختلفون بدرجة كبيرة من الفوضى وقلة الالتزام والمسؤولية، إنها حرية صعبة، تبدو كحمل ثقيل على شعوب لم تستعد لتحمل مسؤولية حريتها وتتعلّم حسن توظيفها لتنهض بنفسها في عالم يتقدّم بسرعة مبهرة، سرعة لم تعد تسمح له بالحديث عن أسس الحياة البشرية وقيمها الرئيسية كالحرية.

مشاركة :