"كتاب الأدغال" يحول وجهة أيام قرطاج المسرحية نحو قضايا البيئة | حنان مبروك | صحيفة العرب

  • 12/4/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

اجتمع مواكبو أيام قرطاج المسرحية لمشاهدة أحد أهم أعمال المخرج العالمي روبرت ويلسون ويدخلون معه “كتاب الأدغال”، ويعيدون قراءة قصة الفتى ماوكلي وما تحمله من رموز اجتماعية وسياسية وبيئية، بمعالجة مسرحية تعتمد على الكثير من الإبهار والمؤثرات البصرية. في إطار الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، استقبل مسرح الأوبرا في تونس عرضين متتاليين في الثاني والثالث من ديسمبر الجاري للعمل المسرحي الغنائي “ذا جينغل بوك” أو “كتاب الأدغال” للمخرج الأميركي الكبير روبرت ويلسون. هذا الفنان يعد واحدا من أبرز الفنانين في عالم المسرح والفنون البصرية في العالم، إذ تتطرق أعماله إلى دمج المسرح بفنون أخرى، منها الموسيقى والتكنولوجيا، بشكل غير تقليدي وباستخدام مجموعة متنوعة من الوسائط الفنية، بما في ذلك الرقص والحركة والنحت والمؤثرات السمعية والبصرية من موسيقى وإضاءة. وبعمله “كتاب الأدغال” يعيدنا ويلسون نحو واحدة من روائع الأدب العالمي، وهو أيضا ينتصر مسرحيا للطبيعة الأم وقوانينها، والبيئة وما يحيط بها من مشكلات سببها الإنسان، وينجح في توجيه بوصلة الدورة الرابعة والعشرين من أيام قرطاج المسرحية للوقوف على أهمية تجربته الفنية التي سيناقشها مع المختصين والنقاد وطلبة المسرح، لكنه نجح أيضا بهذا العرض في توجيه بوصلة المهرجان نحو الاهتمام بقضايا البيئة، القضايا التي تعد إحدى مشكلاتنا الكونية الحارقة، والتي تسعى الشعوب إلى إيجاد حلول لها تضمن استدامة الكوكب ومواجهة التغيرات المناخية الكبرى. يؤكد ويلسون مع فرقته المسرحية وشريكيه الموسيقيين كوكو روزي في هذا العمل، على المخاطر التي تهدد الطبيعة. تتشابك الأغاني والقصص مع أداء الممثلين والراقصين والمغنين في سينوغرافيا يتلاشى فيها النص أمام قوة الصور والألوان والأشكال الهندسية في الفضاء، وتتراقص أجساده كأنها في انعدام الوزن والظلال الصينية، وتصميمات الرقصات. محافظة على الأصل هكذا تكلم ماوكلي ورفاقه هكذا تكلم ماوكلي ورفاقه “كتاب الأدغال” كما يشير العنوان، هو عمل مسرحي غنائي مأخوذ عن رائعة الكاتب روديار كيبلينغ (1865 – 1936) التي كتبها في نهاية القرن التاسع عشر وكانت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنية المسرحية والسينمائية، وتحظى بشهرة واسعة حتى في مخيلة الأطفال والكبار ممن نشأوا على قراءة القصص ومتابعة أفلام والت ديزني. يحافظ ويلسون على روح العمل الأدبي، الذي يحكي سبع قصص قصيرة عن ماوكلي، فتى الأدغال الذي كبُر وتربّى بين عائلة من الذئاب بعد أن هاجم نمرٌ والدَيه واختطفه من بينهما. يعيش ماوكلي في ظِل حماية الذئاب من شرّ النمر شيريخان. ويتعلم قانون الأدغال من الدب البني بالو، والنمر الأسود باغيرا. ويصبح الفتى واحدا من الحيوانات، لا يطبق عليه قانون الذئاب ضد بني البشر، بل يدافعون عنه ويحمونه من كل محاولات الفتك به. وتنقسم شخصيات الحيوانات في القصة إلى فئتين مختلفتين، فهناك الذئاب “الصالحة” التي تتبع قوانين الغاب وتحافظ على التسلسل الهرمي للسلطة، وهناك الحيوانات “السيئة” مثل الكوبرا والقرود والنمر شيريخان التي لا تتبع القواعد وتسعى لتخريب قوانين الغابة، وتتعرض بسببها الحيوانات لعقاب البشر. إنها رموز، شيفرات، كتبها كيبلينغ، لتكون قصة صالحة للصغار والكبار، يراها الطفل حكايات خيالية عن عالم الحيوان، في حين يفهمها الكبار انطلاقا من تحليلهم للغة الرمز، فتكون استشرافا للأوضاع الاستعمارية، في مقدمتها الاستعمار البريطاني للهند، ولم لا استشرافا للصراع بين قوانين الطبيعة وقوانين البشر؟ وفي “كتاب الأدغال” يتميز الفتى ماوكلي على الحيوانات بالمعارف البشرية، فهو يعرف لغة الحيوانات وفي الوقت نفسه لسان البشر وثقافتهم التي تمكنهم من الهيمنة على عالم الحيوان، بما يبدو نوعا من التمثيل الرمزي لقدرة الإنسان على الهيمنة أكثر كلما اكتسب معارف أكبر، وهو ما منح القوات الاستعمارية في الماضي اليد العليا على الشعوب البدائية والدول النامية. إبهار مسرحي إبهار بصري على ركح المسرح يستفز المتفرج للتفكير من خلال عينيه إبهار بصري على ركح المسرح يستفز المتفرج للتفكير من خلال عينيه رغم الحفاظ على سيرورة القصة الأصلية وأحداثها، يقدم ويلسون عملا مسرحيا مبهرا، يراوح بين الحوار المختصر والدقيق، بلغة فرنسية شاعرية، وبين الأغاني الحماسية الفكاهية، بلغة إنجليزية، يقدمها ممثلون يجيدون التمثيل والرقص والغناء، ويتحركون على الخشبة وكأنهم “حيوانات” في غابة تخضع لسيطرتهم الكاملة. هذا التمكن من الأداء، يقول عنه ويلسون في أحد تصريحاته “لقد طلبت دائمًا من الممثلين أن يكونوا قادرين على العثور في أنفسهم على شيء بديهي، إن لم يكن حيوانيا، بعيدا عن أي تفكير جامد بشكل مفرط. أود أن أقتبس من هاينريش فون كلايست قوله إن الممثل الجيد يجب أن يكون مثل الدب.. أن تكون مثل الدب هو أن تكون قادرا على السماع لكل جسدك. ليس فقط بأذني الدب أو برأسه”. وفي “كتاب الأدغال” يتحرر الممثلون ليتحركوا دون مفاهيم جمالية أو قيود مسبقة، وهم يقدمون رقصات قريبة للرقص التقليدي، يبتكرون أساليبهم الحركية الخاصة التي تمنحهم المزيد من الطبيعية والواقعية، يبتكرون حركات أقرب لعالم الحيوان، لكنها لا تنم على أنهم يمثلون. يتحرك ممثلو ويلسون الذي يعد رمزا لمسرح ما بعد الحداثة، في حركات بطيئة، وبحركات مكررة، تتطلب منهم مستوى متقدما من اللياقة البدنية، ومن القدرة على التركيز والتفاعل مع المؤثرات البصرية والانتباه إليها، لخلق أبعاد فنتازية، تعززها الموسيقى التي تتراوح بين الأصوات والنغمات المسجلة والحية. المسرح في "كتاب الأدغال" منقسم إلى مناطق، متراصة الواحدة خلف الأخرى، يتجسد فيها أداء الممثل بشكل مختلف هي حركات مدروسة، تفتح الفضاء المسرحي أحيانا، على المساحة الخاصة بالمشاهد، كحركة دخول ظهور القرد بين كراسي المسرح، أو لحظة العزف الحي على آلة الكمان، من شأنها خلق أبعاد شعورية وحسية تكسر الصورة النمطية للعرض المسرحي الملتزم بحدود الخشبة. والمسرح في “كتاب الأدغال” كما هو المسرح في أعمال ويلسون، منقسم إلى مناطق، متراصة الواحدة خلف الأخرى، يتجسد فيها أداء الممثل بشكل مختلف، من قسم إلى آخر، فيمنح لكل مساحة هويتها، ويبدو فيها أداء الممثل منفصلا عما يدور خارج منطقته الخاصة، ليعيد الاتصال لاحقا بالأداء الثنائي أو الجماعي. وإلى جانب الحركة والصوت والمؤثرات التقنية، تأتي الأزياء لتعزز عالم الحيوان، الذي تدور خلاله قصة العرض المسرحي، أزياء تعزز مروفولوجيا أجساد الممثلين الذين اختارهم المخرج المسرحي بدقة، ليكون الدب بحجم دب، ويكون النمر الأسود، نمرا أفريقيا خطيرا، وكذلك الأمر بالنسبة للفيل والثعبان وكل الحيوانات الحاضرة في الحكاية. والإنسان هو الآخر حضر بزيه العسكري الاستعماري، وببندقيته المستعدة لصيد الحيوان ولفرض السيطرة على الإنسان الأضعف منه. من خلال اطلاعنا على هذا العرض، يمكن القول إن أيام قرطاج المسرحية قدمت لنا فرصة قد لا تتكرر لمشاهدة أحد أعمال روبرت ويلسون، ولنستكشف بشكل أساسي كيف أسس المبدع الأميركي لمسرح يستفز المتفرج للتفكير من خلال عينيه، والغوص في الإبهار البصري المسرحي، لفك رموز الفكرة. وتجدر الإشارة إلى أن الفنان روبرت ويلسون المولود في العام 1941 من أبرز الفنانين في عالم المسرح والفنون البصرية في العالم. بعد التحاقه بالجامعة، أسس ويلسون مجموعة الأداء الجماعي بمدينة نيويورك في منتصف ستينات القرن الماضي، وطور خلالها عددا من أوائل أعماله المميزة، بما في ذلك “رسالة إلى الملكة فكتوريا” (1974 – 1975) و”ديفمان غلانس” (1970). وشارك مع فيليب غلاس في كتابة أوبرا “آينشتاين على الشاطئ” (1976). وفي حصيلته أكثر من 150 مسرحية، نجح أغلبها في جعله رائدا في الفن الرابع. وإلى جانب كونه فنانا مسرحيا، فإن ويلسون أيضا فنان تشكيلي، تم عرض رسوماته ولوحاته ومنحوتاته في جميع أنحاء العالم في المئات من المعارض الفردية والجماعية، كما تم عرضها في مجموعات خاصة ومتاحف عديدة في جميع أنحاء العالم. حظي بالتكريم بالعديد من الجوائز المتميزة، بما في ذلك الترشيح لجائزة الأسد الذهبي لبينالي البندقية، وجائزة أوليفييه، وجائزتي بريميو يوبو، وجائزة بوليتزر.

مشاركة :