يجمع محللون على أن صعود مؤشرات أسواق المال خلال الأشهر الثلاثة الماضية تجاوز إطار المنطق رغم خسائر الشركات بسبب وباء كورونا، ودخول العالم مرحلة ركود اقتصادي، وصفها صندوق النقد الدولي بأنها أزمة غير مسبوقة دفعته إلى تغيير توقعاته لنمو الناتج الإجمالي العالمي إلى المنطقة السالبة بنحو 4.9 في المئة. القاهرة - تسببت الأموال “المراهقة” في خلل هيكلي بأسواق المال، ودفعتها إلى تحقيق معدلات صعود وهمية بعيدة عن محاكاة الواقع، وركود حركة الاقتصاد التي تؤشر على خسائر كبيرة تنال من المراكز المالية للشركات. وتختلف الأموال “المراهقة” عن الأموال “الساخنة”، فالأولى يُحكم الأفراد قبضتهم عليها وتحركها العاطفة وسلوك القطيع، أما الثانية فتحركها مؤسسات مالية، وتراهن دائما على تحقيق عوائد قوية على أموالها بناء على دراسات مالية وفنية. ومنذ إعلان حالة الطوارئ عالميا في مارس الماضي، لمواجهة وباء كورونا، تشهد أسواق المال مضاربات قوية دفعت مؤشراتها للصعود. وارتفعت أسهم الشركات رغم التداعيات السلبية لتفشي وباء كوفيد – 19، وباتت أجراس الإنذار، التي ترسلها الشركات حول خسائرها المالية تطارد الأنشطة الاقتصادية. وكشف مؤشر الأسواق المالية العربية عن صعود كبير بنحو 16 في المئة خلال 100 يوم تقريبا، بدءا من منتصف مارس وحتى تعاملات الثلاثاء الماضي، رغم خسائر اقتصاد المنطقة، وانكماشه بسبب الجائحة. وتوقع صندوق النقد الدولي أن يحقق اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى نموا سالبا بحوالي 4.7 في المئة خلال العام الحالي، خلافا لتوقعات إيجابية لنمو الاقتصاد العالمي قبل تفشي الجائحة بنحو 3.5 في المئة. وأرخت التداعيات السلبية لوباء كورونا بظلالها على توقعات النمو، ومع غياب بوادر تحدد توقيت السيطرة على كورونا زاد صندوق النقد الدولي نظرته السلبية تجاه نمو الاقتصاد العالمي وقدره بسالب 4.9 في المئة. ودفعت ظاهرة الأموال المراهقة المؤسسات المالية، وكبار المستثمرين من ذوي الرشادة المالية إلى تبني حملات تستهدف الضغط على الشركات المتداولة أسهمها في أسواق المال بإعلان موقفها المالي وتداعيات كورونا على مراكزها المالية. وانطلقت الشرارة الأولى لحملة الضغط من وول ستريت وطالب المستثمرون الشركات المدرجة في البورصة بالإعلان عن تقديرات أرباحها، رغم أن الأسهم الأميركية حققت أفضل أداء ربع سنوي لها خلال أكثر من عقدين في أول ثلاثة أشهر من العام الحالي. ورغم أن توقعات الموسم المقبل لإعلان أرباح الشركات تشير إلى أنه سيكون الأسوأ، لكن من غير الممكن تحديد مدى سوء تلك النتائج المالية، فالغالبية العظمى من الشركات المدرجة رفضت الإفصاح عن أرباحها خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وكي يستمر هذا الارتفاع في أسواق الأسهم يتطلب من الشركات أن تكون أكثر شفافية فيما يتعلق بتقديرات أرباحها للفترة المتبقية من العام الحالي. وتنص تشريعات أسواق المال عالميا على مبدأ الإفصاح وحق حملة الأسهم في معرفة الأوضاع المالية الحقيقية للشركات. وشهد مؤشر ستاندرد آند بورز 500 صعود بنسبة 24 في المئة خلال الأشهر الثلاثة الماضية عبر عمليات تداول نشيطة أضافت نحو 10 تريليونات دولار إلى قيمة الأسهم المدرجة في وول ستريت. وتنذر ممارسات الأموال المراهقة بدخول الأسواق في موجات تصحيح سعرية قوية تفاقم أوضاع الاقتصاد مجددا وتضيف أعباء لا طاقة له بها، تزامنا مع ثقل خسائر كورونا الاقتصادية. وتوقع إيهاب سعيد، خبير أسواق المال والاستثمار، أن تشهد الأسواق حركات تصحيح عنيفة، طالما باتت التداولات بعيدة عن منطق الاقتصاد الحقيقي. وقال في تصريح لـ”العرب” إن “وباء كورونا تسبب في توقف الاقتصاد العالمي المنتج للسلع والخدمات، وهو المعبر عن الاقتصاد الحقيقي”. واستغل المضاربون خفوت الاقتصاد الحقيقي واتجهوا إلى أسواق المال باعتبارها خارج حركة السكون، وباتت الملاذ الوحيد أمام حركة رؤوس الأموال السريعة، وقاموا بضخ تدفقات مالية ضخمة نفخت الأسواق عبر عمليات شراء الأسهم. وأضاف سعيد “أدى هذا السلوك إلى دخول سيولة نقدية كبيرة في الأسواق تسببت في ارتفاع مؤشرات أسواق المال، فيما لا تعكس هذه الارتفاعات الأوضاع المالية للشركات، ما ينذر بفقاعة جاهزة للانفجار في أي وقت”. ويجد المتابع لحركة صعود الأوراق المالية في السوق أن أسهم المضاربات الخاصة بالأفراد تشهد انتعاشا وصعودا كبيرين، رغم غياب أخبار تعزز صعودها، أما الأسهم الكبرى للشركات الصناعية ذات الوزن النسبي الثقيل فبعيدة عن حركة الصعود. ويحكي أحمد سعد، موظف بإحدى شركات العقارات، قصته مع البورصة المصرية لـ”العرب” قائلا “تابعت حالة البورصة الفترة الماضية ووجدتها تشهد انتعاشة كبيرة، فتوجهت إلى إحدى شركات السمسرة بمنطقة المهندسين وفتحت محفظة بقيمة 1250 دولارا”. وعندما طلب سعيد النصيحة من سمسار الشركة، وجهه نحو الأسهم الرخيصة، التي لا يتجاوز سعرها نصف دولار فأقل، وقام بالفعل بالشراء مع أنه أول استثمار له في سوق المال. وتكشف قصة سعد عن مغامرة غير محسوبة، فهو يشتري الأسهم الرخيصة فقط من باب المضاربة بعيدا عن دراسة ميزانيات الشركات للوقوف على مركزها المالي الحقيقي، ومع أول حركة تصحيح للسوق قد تأتي على أمواله ويندم على خسارة رأسماله. وطالت أيضا تداعيات الوباء موازنات الدول، وكشف وزير المالية المصري محمد معيط أنه ستتم إعادة تقدير الموقف المالي للموازنة العامة للدولة، في أعقاب الربع الأول من العام المالي الحالي على ضوء مستجدات الوضع الوبائي لجائحة كورونا، وتداعياتها الاقتصادية، تمهيدا لإجراء تعديلات على بنود الموازنة بالتنسيق مع مجلس النواب. وقال محمد كمال، خبير أسواق المال بمصر، إن “نتائج أعمال الشركات خلال الربع الثاني تباينت بين التحسن والتدهور، وقطاعات مثل الغذاء والدواء وتكنولوجيا المعلومات والمدفوعات الإلكترونية شهدت نشاطا كبيرا”. وأوضح لـ”العرب” أن الجائحة رفعت الطلب على الشركات التي تقدم الخدمات عن بعد، مثل أمازون وسوق دوت كوم، بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الدول للحد من آثار الجائحة، وتصاعد دعوات “خليك بالبيت”. وأشار إلى أن الجائحة هزت المراكز المالية للشركات بشكل يستدعي الإفصاح عن سلامة مراكزها المالية، فالشركات التي تعمل في الأنشطة السياحية والخدمات الفندقية تعرضت لصدمات قوية عصفت بخططها رغم عمليات إعادة فتح الاقتصاد. ومع تداخل الأمور لا بد أن تقود أسواق المال العالمية مبادرات إلزام الشركات بتقدير خسائر كورونا على أنشطتها إعمالا لمبدأ الإفصاح والشفافية، في ظل استمرار حركة التدفقات النقدية للأسواق. وما يزيد من أهمية تلك الخطوة بيانات معهد التمويل الدولي التي رصدت تدفقات للمحافظ الاستثمارية إلى الأسواق الناشئة خلال يونيو الماضي بنحو 32.1 مليار دولار، مقابل 3.5 مليار دولار في مايو، ونحو 3.4 مليار دولار جرى ضخها خلال أبريل. وأمام سيل التدفقات النقدية نحو الأسواق المالية، حذر المعهد من تلك الظاهرة، وأكد أنها لا تعكس الأوضاع الحقيقية لأسواق المال والاقتصاد الحقيقي.
مشاركة :