لماذا خاصم التراث الإسلامي نحت التماثيل | مصطفى عبيد | صحيفة العرب

  • 7/13/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كشفت موجة الغضب الآنية تجاه تماثيل بعض الزعماء والرموز التاريخية في دول العالم الغربي عن سمة لافتة للنظر في التراث العربي والإسلامي، تمثلت في مخاصمة حضارة العرب لفن النحت على مدى قرون عديدة. رغم تطور العقل العربي ونضجه في ظل احتكاكه بحضارات العالم القديم، إلا أن الإبداع الفني تجاهل صناعة التماثيل، لعدة أسباب كان أهمها غلبة التحريم تحت تصور التشابه مع الأصنام. ولم يكن غريبا ألا نجد تمثالا واحدا لأي من الخلفاء الراشدين، أو الصحابة أو السلاطين والقادة العظام في ما بعد، إلا بدءا من القرن التاسع عشر الميلادي. ولم ينتج السابقون تمثالا أو صورة للعلماء والفلاسفة والمفكرين العرب العظام من مثل ابن سينا، أبوحامد الغزالي، ابن رشد، ابن خلدون، وغيرهم، في الوقت الذي ازدحمت فيه المتاحف والجامعات الغربية الكبرى مثل هارفارد، السوربون، ومتحف اللوفر، بتماثيل ولوحات لهم. فهم مغلوط استند فقهاء القرون الأولى والوسطى في تحريمهم للنحت على تفسيرهم لحديث نبوي رواه البُخاري، ومُسلم، يقول “إن أشد الناس عذابا يوم القيامة هُم المصورون”، فضلا عن حديث آخر يقول “إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم أحيوا ما خلقتم”. أسهم نمو التيارات الدينية على مدى العقود الأخيرة بالعالم العربي في تصاعد حالة الخصام تجاه فن النحت، وصناعة التماثيل، رغم أن علة التحريم المتمثلة في افتتان الناس بها وعبادتها لم تعد مطروحة على العقل البشري. وصل الأمر بمعاداة التماثيل إلى قيام بعض المتعصبين دينيا في بعض البلدان العربية بهدم منحوتات حضارية قائمة، وتعرضت تماثيل حديثة لزعماء وأدباء وفنانين كبار للتشوية، أو الهدم، أو التغطية بستائر تحت تصور حرمة تجسيم الإنسان. توارثت الأجيال الحديثة تشبيه التماثيل والمنحوتات بأصنام الجاهلية، ما ولد كراهية وعداء واسعين تجاه فن النحت، وصل إلى الطلبة الدارسين للفنون الجميلة أنفسهم. ففي منصة الفتوى لموقع “إسلام ويب” التابع لدولة قطر، نقرأ سؤالا تحت رقم 278404 لطالبة في كلية الفنون الجميلة قالت فيه إنها تتعلم الرسم والنحت، وسمعت كثيرا أن ذلك غير جائز، لأن النحت يشبه عمل الأصنام، وأكدت أنها ستدرسه كمقرر فقط، لكنها لن تطبقه في حياتها العملية ولا المهنية لاقتناعها بحرمته، وسألت إن كانت الدراسة وحدها حلالا أم حراما؟ وجاء الرد صارما بأن تعلم النحت والتصوير والرسم حرام لا جدال فيه، وأما تطبيق النحت نفسه، فيجوز في ما لا روح له، أو ما كان مقطوع الرأس من ذوات الأرواح، “مَن أراد خدمة الإسلام فليخدمه بتعليم الوحي والدعوة به فهو السبيل الأمثل لهداية الناس ونشر الدين بينهم، فإن لذلك عظيم الأثر في النفوس، وهو أولى من مجاراة الكفار في وسائلهم، لاسيما إذا لم يتأكد من مشروعيتها”. يعني هذا أن منطق التحريم السطحي الذي طرحه مفتي موقع “إسلام ويب” الإخواني، هو ذاته الذي كان حاكما لتراث العرب بعد الإسلام لعقود طويلة وربما جعلهم يتجنبون تماثيل الشخوص، أو يلجأون إلى نحت الزخارف النباتية، والحيوانات الخرافية، والأشكال الهندسية وحدها. إن الخطاب واحد والعقلية المنغلقة كما هي لم تتغير، رغم أن الحياة في العالم كله تطورت، والتصور العقلاني ازداد رحابة وعمقا وفهما أصيلا لجمال الفن، والاعتقاد باستحالة افتتان الناس بتمثال أو بأي شكل منحوت. في رأي الدكتور شاكر عبدالحميد وزير الثقافة المصري السابق، وأستاذ علم نفس الإبداع بأكاديمية الفنون المصرية، نزعة تحريم النحت موجودة في الديانات السماوية الثلاثة، لكن الدين اليهودي والمسيحي تجاوزاها سريعا بنمو الوعي والتأقلم مع نضج العقل الإنساني. وقال في تصريح لـ”العرب”، إنه لم يرد نص واضح وصريح في تحريم النحت، لكن هناك حديثا منسوبا للنبي محمد، لا يعرف مدى صحته، يقول إن المصورين هم أشد الناس عذابا. وأكد أن الرؤية الإسلامية في تحريم النحت تأثرت بما في العهد القديم، إذ ورد في سفر الخروج “4:20” ما نصه “لا تصنع تمثالا منحوتا ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت”. وتابع قائلا “الفكرة العامة للتحريم في الإسلام مرتبطة بالخوف من الشرك بالله، لكن هناك رؤية مستنيرة للإمام محمد عبده في هذا الأمر تعتبر التحريم زال بانتفاء العلة”. ولفت عبدالحميد إلى وجود سبب آخر لاتساع مسافة الخصام بين التراث الإسلامي وفن النحت، يتمثل في الخوف من الفراغ، وهيمنة التفكير اللغوي، من لغة قرآن، وشعر، وخُطب على التفكير البصري من صور وتجسيم ونحت، ما أدى إلى ازدهار الفنون الثابتة كالعمارة، والمنقولة كزخرفة الأواني والمنسوجات، أو التي تجمع بين الثبات والحركة والتكرار مثل زخارف المساجد والقصور والمقرنصات والتيجان والقناديل وتجميل المصاحف وفنون الخط والأرابيسك، فالمهم هنا هو الابتعاد عن التجسيم والنزعة الإيهامية التي قد توحي بوجود روح ما تتحرك في الفراغ. وأكد الدكتور عصمت نصار، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، لـ”العرب”، أن فن النحت جائز، وما ورد في شأنه لم يصل إلى درجة التحريم القطعي، وإنما مجرد الكراهة، وفكرة التحريم نفسها كانت قاصرة على مَن يصورون تماثيل للعبادة، ما يعني أن التحريم ارتبط بعلة وحينما تزول العلة فإنه يسقط كما يرى الكثير من علماء الدين المستنيرين. لا يُمكن اعتبار خلو التراث من تماثيل بشرية مردودا إلى التحريم الديني وحده، لأن هناك فنونا وأساليب فنية أخرى اتفق علماء الدين على تحريمها، ونبغ فيها الكثير من المبدعين رغم ذلك غير مبالين بفتوى تحريم أو تصور مجتمعي بالرفض، ومن ذلك مثلا التغزل بالغلمان في الشعر، أو وصف الخمر، أو الطرح الجدلي عن نشأة الوجود وما وراء الطبيعة، والتي ازدحمت بها كتب التراث. أسباب متنوعة إن التحريم الديني القاطع لم يكن كافيا لاختفاء صناعة التماثيل، لأن ذلك التحريم لم يكن بالصرامة والوضوح والقطعية التي اتسمت بها أمور أخرى، ما جعل العرب يتسامحون مع كافة التماثيل والمنحوتات التي وجدوها في الحضارتين الفارسية والمصرية، ولم ينظروا إليها باعتبارها أصناما كأصنام الجاهلية. تضافرت أسباب أخرى مع فكرة التحريم لتقف كحائط عزل بين النحت وأصحاب المواهب الإبداعية المختلفة، وفي رأي عصمت نصار، فإن أحد هذه الأسباب كان ارتفاع تكلفة صناعة التماثيل نفسها وعدم وجود جدوى اقتصادية لها بعد مجيء الإسلام، فعدم اهتمام العرب بفن النحت أدى إلى غياب الزبائن لتلك المنتجات، ما يُقلل دوافع أصحابها للعمل في صناعتها، والانشغال بأي حرفة أخرى تُحقق دخلا ماليا مناسبا. علاوة على عدم وجود مدارس لفن النحت في الجزيرة العربية، حتى أن الأصنام السابقة على الإسلام كانت عبارة عن صخور ملساء أو مدببة، ونادرا ما كانت تُجسم على هيئة شخوص. وهناك أسباب نفسية يعتقد أهميتها أشرف منصور، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، وتتمثل في كون العرب المعبرين عن الطبقة الحاكمة في أقاليم العالم الإسلامي طوال القرون العشر التالية لبعثة الرسول محمد (ص) أمة صحراوية بدوية قليلة الاهتمام بالفنون، ويقتصر الإبداع لديها على الإبداع الكلامي. قال منصور، لـ”العرب”، إن دخول عرب شبه الجزيرة إلى العراق، والشام، ومصر، ومشاهدتهم للتماثيل الضخمة والأعمدة الكبيرة ذات النقوش المنتمية للحضارات القديمة أدى إلى صدمة حضارية شديدة لدى المنتصرين الذين كان أكبر بناء لديهم هو الكعبة المشرفة، ما دفعهم إلى توظيف شبهة الكراهة الدينية في استبعاد فن النحت تماما، بعد أن تصوروا أنهم مهما فعلوا، ومهما أتقنوا وحاولوا فلن يصلوا أبدا لما وصل إليه أصحاب الحضارات القديمة من إبهار وإتقان وعظمة. وأوضح أن شعور العرب الحاكمين بصعوبة التجريب والمساهمة في فن النحت يتأكد في خرافات اختلقوها ورددها بعض المؤرخين العرب عن الحضارات السابقة، من عينة أن المصريين القدامى مثلا كانوا عمالقة أو سحرة ليشيدوا تلك الفنون المبهرة، ووجدوا في نص ديني هنا أو هناك فرصة لتأكيد فكرتهم. الغريب في الأمر أن الخطاب الفقهي العام ترك نصوصا قطعية الثبوت، مثل بعض آيات القرآن الكريم، وأعاد تفسير نصوص ظنية مثل أحاديث الآحاد لتأكيد منطق التحريم. وذكر أحمد صبحي منصور، وهو مفكر مصري يقيم في الولايات المتحدة، في دراسة له منشورة مؤخرا أن التماثيل ورد ذكرها مرتين في القرآن الأولى في سورة الأنبياء الآية 52 “إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون”، والثانية في سورة سبأ الآية رقم 13 والتي تقول عن خدم النبي سليمان من الجن “يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجِفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور”. وأشار إلى أن التماثيل المذكورة في حقبة سيدنا إبراهيم اكتسبت صفة الوثنية، بينما المذكورة في قصة النبي سليمان فهي تماثيل فنية وجمالية، ومسموح بها إلى درجة أن القرآن الكريم يحتفي بها ويعتبرها نعمة تستحق الشكر. ولفت إلى أن التاريخ لم يسجل أثناء خلافة أي من الخلفاء الراشدين تحطيم أي تمثال في البلاد التي تم غزوها، سواء في العراق أو مصر أو الشام، ما يعني أن الفهم المبكر لصناعة التماثيل لم يكن يعتبرها جميعا أصناما. من هنا، فإن التمثال ليس حراما أو حلالا في حد ذاته وإنما يحرم أن نقدسه ونجعله صنما معبودا، وهو مباح وحلال إن تم اتخاذه كزينة أو حبا في الفن والجمال أو حتى بغرض التجارة. وخلص منصور إلى أن الإسلام سبق عصرنا في الإبقاء على التماثيل وحتى الأصنام المعبودة منها، وأجرى حوارا لتنظيف العقل من تقديسها، بل ودعا إلى السير في الأرض للكشف عنها لدراستها والبحث وفيها.

مشاركة :