وجدت إيران في الصين فرصة جديدة أثناء معاناتها بسبب العقوبات الأميركية الحادة والانكماش الاقتصادي. وترى بكين من جهتها فائدة في التعامل مع طهران رغم أنها لا تواجه نفس القدر من المشاكل التي تكبّل اقتصادها. إلا أنّ أغلب المحللين يتفقون على أن أي صفقة بين طهران وبكين هي أشبه بلعبة قمار لا يوجد فيها رابحان قطعا. لندن - أثارت مسودة اتفاقية تعاون صينية إيرانية مدتها 25 عاما التكهنات والافتراضات والتحذيرات في وقت واحد، خصوصا أنها تأتي في وقت يعيش فيه العالم أمام مستقبل اقتصادي غامض بسبب تداعيات وباء كورونا. وتشمل الاتفاقية الصينية الإيرانية التي تبلغ قيمتها 400 مليار دولار إنشاء مناطق تجارة حرة وتطوير تكنولوجيا الجيل الخامس عبر إيران، وتعزيز التعاون العسكري بين الدولتين في المنطقة، في محاولة لمواجهة هيمنة واشنطن التقليدية. كما يشمل الاتفاق الذي يقول أحد كبار مساعدي الرئيس الإيراني حسن روحاني إنه يتعين توقيعه في شهر مارس المقبل، تعاونا عسكريا أوثق بين الدولتين، وتطوير الأسلحة، إلى جانب التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية، الأمر الذي يثير حزمة تساؤلات بشأن إذا كان هذا الاتفاق الصيني الإيراني رسالة تقلق الهيمنة الأميركية القائمة منذ وقت طويل في منطقة الخليج المجاورة. وقال الأدميرال علي رضا تنغسيري، قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني وهو يعلن عن اعتزام إيران بناء قاعدة عسكرية جديدة في المحيط الهندي إنه سوف يتم استخدام القاعدة لحماية سفن الصيد والسفن التجارية من القرصنة ومن “السفن الأجنبية”، في إشارة إلى القوة البحرية الخاصة متعددة الجنسيات التي تقودها الولايات المتحدة والتي تقوم حاليا بحماية سفن الخليج من التدخل الإيراني. ولم تقدم إيران حتى الآن أي دليل على المكان الذي تعتزم أن تبني فيه القاعدة الجديدة. وفي الوقت الحالي يعتبر ميناء تشابهار في خليج عُمان، الذي يستخدم بين أنشطة أخرى لنقل البضائع إلى أفغانستان، هو أقرب قاعدة للمحيط الهندي تمتلكها إيران. وكجزء من الاتفاق الذي يتم التفاوض بشأنه مع بكين، سوف يسمح لبكين بالوصول إلى عدد من الموانئ الإيرانية، بما في ذلك ميناء تشابهار، حيث تردد أن الصينيين يخططون لبناء قاعدة عسكرية جديدة قرب الميناء. وبناء مثل هذه القاعدة سوف يمكّن البحرية الصينية من مراقبة أنشطة البحرية الأميركية في المنطقة، خاصة الأسطول الخامس في الخليج الموجود بصفة دائمة لحماية مرور السفن غبر مضيق هرمز، وهو من أهم الممرات المائية الاقتصادية في العالم. ومن المؤكد أن احتمال تواجد تحالف عسكري إيراني- صيني جديد في المحيط الهندي يعتبر تطورا سينظر إليه بمنتهى الجدية من جانب المؤسسة العسكرية الأميركية، التي تشعر بالقلق بالفعل إزاء محاولات إيران نشر نفوذها في أنحاء المنطقة. وحذر الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأميركية، في حوار جرى مؤخرا معه من أن إيران تمثل أكبر خطر بالنسبة لأمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها. وأضاف ماكنزي أن “إيران تؤجج عدم الاستقرار ومصممة على إضعاف الأمن في جميع أنحاء المنطقة. فهي تستخدم العنف ومن يعملون بالوكالة لصالحها في جميع أنحاء المنطقة للدفع بدول أخرى إلى أجندتها”. ويرى المحلل السياسي كون كوفلين أحد كبار الزملاء بمعهد جيتستون الأميركي، وهو مجلس ومركز أبحاث، في تقرير له نشره المعهد أن أي تحالف عسكري مستقبلي بين طهران وبكين من شأنه فقط تعزيز إصرار إيران على توسيع نطاق أنشطتها الخبيثة في المنطقة، مما يزيد من احتمال المزيد من تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة وحلفائها. ويضيف كوفلين أنه كجزء من العهد الجديد للتعاون بين طهران وبكين، أثار مسؤولو الأمن الغربيون المخاوف من إمكانية أن يؤدي هذا إلى أن تشكل الدولتان تحالفا لتعزيز تواجدهما في المحيط الهندي، وبالتالي يتحديان العالم. وفي إشارة إلى أن الولايات المتحدة لا ترى الصفقة بين الصين وإيران مهمة، تمسكت إدارة ترامب بمواصلة سياستها القديمة. وقالت متحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية في رد على أسئلة حول مشروع الاتفاق أن “الولايات المتحدة ستواصل فرض تكاليف على الشركات الصينية التي تساعد إيران، التي تعدّ أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم. فمن خلال السماح للشركات الصينية أو تشجيعها على الضلوع في أنشطة مع النظام الإيراني، تقوض الحكومة الصينية هدفها المعلن المتمثل في تعزيز الاستقرار والسلام”. اتفاقية مرتقبة وتعهدت إيران بتزويد الصين بالنفط بأسعار رخيصة طوال ربع قرن، مع العلم بأن العديد من الاتفاقيات التي وقعها الرئيسان شي جينبينغ وحسن روحاني خلال زيارة الزعيم الصيني للشرق الأوسط في 2016، ستوسع العلاقات الاقتصادية بين البلدين إذا تم العمل بها وذلك بزيادة التبادل التجاري إلى 600 مليار دولار. وأبرمت هذه الاتفاقات التي تشير إلى ميل صيني محتمل تجاه إيران تحسبا لرفع عدد من العقوبات الأميركية وتخفيف بعضها كجزء من الاتفاق النووي المبرم مع الغرب عام 2015 بهدف تقييد برنامج طهران النووي. وقد تحطمت هذه الآمال عندما انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاقية من جانب واحد في 2018 وفرض عقوبات تشل اقتصاد إيران. ثم في الشهر الحالي، بدت إيران تضيف المزيد من التفاصيل إلى خططها وهو ما أبرزه تسريب لمسودة نهائية مزعومة لاتفاقية شراكة مدتها 25 سنة وتشمل ما يصل إلى 400 مليار دولار من الاستثمارات الصينية لتطوير قطاعات النفط والغاز والنقل الإيرانية. لكن هذه الخطط تبقى مجرّد مسودّة غير نهائية. ويبقى أمام البلدين مسار تفاوض طويل لإبرام اتفاق، مما يؤجّل احتمال تنفيذه. لكن هذا لا يعني غياب المنافع الفورية. فمن خلال تنشيط النقاش عن اتفاق وشيك، ترسل إيران إلى أوروبا وإدارة بايدن المحتملة إذا فاز بالانتخابات الرئاسية رسالة مفادها بأن السياسات الأميركية والأوروبية تهدد بدفع طهران إلى أحضان الصين. الأمر الذي جعل الكاتب السياسي جيمس دورسي يصف، اتفاق الصين وإيران الطويل بأنه أشبه بلعبة القمار الجيوسياسية. واستفادت الصين من إيران بتعزيز الرسائل التي كانت بكين توجهها نحو واشنطن والشرق الأوسط. وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان، وهو مؤيد لنهج بلاده الأكثر حزما، دبلوماسيا بطابع استثنائي في تعليقه. وقال إن الصين وإيران تتمتعان بصداقة تقليدية، وإن الجانبين بقيا على اتصال بشأن تطوير العلاقات الثنائية. وأضاف “نحن مستعدون للعمل مع إيران لدفع التعاون العملي”. وكتب الباحث في شؤون الشرق الأوسط، فان هونغدا، في صحيفة “شنغهاي أوبزرفر” التابعة للحزب الشيوعي الصيني أن الاتفاق سلط الضوء على لحظة مهمة في وقت سمحت فيه التوترات بين الولايات المتحدة والصين لبكين بتجاهل السياسات الأميركية. وبهذا التعليق كان فان هونغدا يردد تحذير الصين من أن الولايات المتحدة تضع الكثير على المحك من خلال إعادة التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم ويمكن أن تدفع الصين إلى نقطة لن تعتبر تكلفة مواجهة السياسة الأميركية مرتفعة فيها. كما عزز رد الصين رسالتها إلى دول الخليج. وأكّد المحللون الذين تربطهم علاقات وثيقة بالحكومة بأن اهتمام جمهورية الصين الشعبية بالشرق الأوسط لم يكن أولوية استراتيجية. ويرى هؤلاء أن الانكماش الاقتصادي، الذي يؤثر على علاقات الصين الاقتصادية في المنطقة، يمكن أن يقنع بكين بالابتعاد عن دول الخليج إذا فشلت في إيجاد سبل للتعامل مع إيران بطريقة من شأنها أن تخفف التوترات. وأشار شين تشون نيو، مدير دراسات الشرق الأوسط في معهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة، وهو من مراكز الأبحاث الفكرية الأكثر تأثيرا في الصين، إلى أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والشرق الأوسط تجاوزت ذروتها لكنها تبقى بعيدة عن نطاق الأهداف الاستراتيجية لبكين. فمكانة هذه المنطقة سياسيا أصبحت أقل أهمية لبكين. ولا يفرض المنطق حسب شين تشون نيو، عقد علاقات سياسية مع دول الشرق الأوسط أكثر من حاجتها إلى المنافع الاقتصادية. وتطرّق نيو إلى أزمة انتشار وباء كورونا التي أثرت سلبا على أسعار النفط، ودورها في تغيير الشرق الأوسط بطرق زعزعت نموذج الاستثمار الصيني فيه. حيث ستجعل التطوّرات العالمية الوضع في المنطقة أسوأ بطرق تؤثر على العلاقات الاقتصادية التي تجمعها مع الصين. وفي تطور مثير يمكن أن يشير إلى شهية الصين للعب الورقة الإيرانية في أقرب وقت، قررت طهران استبعاد الهند من مشروع البنية التحتية الاستراتيجي الذي يرمي إلى مد خط السكك الحديدية من ميناء تشابهار إلى مدينة زاهدان على طول الحدود المشتركة مع أفغانستان. في 2018، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إن وزير الخارجية مايك بومبيو منح استثناء من العقوبات للسماح بتطوير الميناء لإقامة ممر النقل بهدف إنعاش الاقتصاد الأفغاني. وأشار إن هذا الاستثناء سيتيح مد خط سكك حديدية من ميناء تشابهار إلى أفغانستان وشحن السلع غير الخاضعة للعقوبات مثل الأغذية والأدوية إلى البلد الذي تمزقه الحرب. وكان هذا القرار يهدف إلى تعزيز العلاقات الأميركية مع أفغانستان والهند في إطار تنفيذ سياسة ممارسة أقصى ضغط على إيران التي تهدد استقرار المنطقة. وخلال الأسبوع الماضي، افتتح وزير النقل والتنمية العمرانية الإيراني محمد إسلامي خط السكة الحديدية لأول 628 كيلومترا من الخط الذي سيربط تشابهار بأفغانستان في النهاية. وقال مسؤولون إيرانيون إن بلادهم ستمول خط السكة الحديدية بنفسها، لكن الصين وإيران عبرتا عن اهتمامهما بربط تشابهار بميناء غوادر الذي يبعد 70 كيلومترا عن الساحل الباكستاني. ثم أعاد الانكماش الاقتصادي الناتج عن الأزمة الصحيّة العالمية الشكوك في أهمية ميناء غوادر، الذي اعتبر جوهرة تاج الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي تبلغ تكلفته حوالي 60 مليار دولار، والذي استفرد بأكبر استثمار في مبادرة الحزام والطريق.
مشاركة :