تعاني النخبة الموجودة في واشنطن على غرار هوليود من الضحالة، إذ إنها تعير قيمة كبيرة للألقاب والثروة والمظاهر. ففي فترة التسعينيات، دعيت مع زوجتي إيلين لحضور مأدبة عشاء أقامتها إحدى السيدات الثريات التي حصلت، بفضل مساهماتها السياسية على تسمية رئاسية أو لقب. خلال تلك المناسبة، ذهبت تلك السيدة إلى إحدى الغرف وراحت تتبجح بمكانة ضيوفها الذين هم من علية القوم. كنت في تلك الفترة أترأس المشروع الذي أطلقه نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل جور لتنمية الاقتصاد الفلسطيني، لذلك فقد تحدثت ليلتها بإسهاب عن العمل الذي كنت أقوم به من أجل دعم الحقوق الفلسطينية. عندها بادرت تلك السيدة الثرية زوجتي إيلين، التي لم تحمل أي لقب، وقدمتها لضيوفها بالقول «هذه إيلين، وهي زوجة جيم» من دون أن تزيد على ذلك أي شيء، وهو ما حز فينا بعض الشيء. لم تكن تلك السيدة الثرية تعلم من هي إيلين حقا. تعود بداية رحلتي مع القضية الفلسطينية إلى خمسين سنة مضت. كنت في تلك الفترة حديث العهد بالزواج ومتخرجا لتوي من قسم دراسات الأديان في جامعة تمبل. كنت أتابع دراستي الجامعية وأقوم بالتدريس في نفس الوقت الذي كنت فيه أشارك في الحركات المناهضة للحرب والمدافعة عن الحقوق المدنية والحقوق الطلابية. كنت في تلك الفترة قد توقفت عن المشاركة في تلك الأنشطة من أجل الاستعداد للامتحانات لنيل شهادة الماجستير. في الوقت الذي كنت أركز فيه على دراستي كانت زوجتي تقرأ كتاب Bury My Heart at Wounded Knee وهو كتاب رائع يروي قصة الخيانة التي تعرض السكان الأصليون في أمريكا وسلبهم لأراضيهم وحقوقهم.كانت زوجتي إيلين مدافعة شرسة عن العدالة الإنسانية وقد تعبر عن غضبها وسخطها الشديد حتى أنها كانت تقاطعني حتى تعبر عما كان يجيش بصدرها من غضب مع كل حادث فظيع أو معاهدة منهارة تطرق إليها ذلك الكتاب الشيق. عندما انتهت إيلين من قراءة الكتاب شرعت في قراءة كتاب آخر عنوانه (السلام المراوغ) الذي ألفه جون ديفيس، وهو أول من تولى رئاسة وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، لتعود زوجتي إلى غضبها وسخطها مع كل صفحة تقرؤها. لقد صدمت زوجتي وهي تقرأ ذلك الكتاب بأوجه الشبه الكثيرة: الوعود الكاذبة والاتفاقيات التي لم تحترم، وسلب السكان المحليين من أراضيهم وتشريدهم بعيدا عن ديار أجدادهم وآبائهم. لقد عبرت عن استيائها الكثير لأننا لم نعرف بهذه الحقائق التاريخية أثناء دراستنا. ذات مرة، وأثناء مطالعتها للكتاب الذي ألفه ديفيس، استوقفتني زوجتي إيلين قائلة: «لم نكن نعلم أي شيء عن هذه الحقائق. إن هؤلاء هم جميعا شعبنا ونحن لا نفعل اليوم أي شيء من أجل الدفاع عنهم». عندها بدأت رحلتي الحقيقية. لم يكن ذلك الدرس الوحيد أو الأخير الذي تعلمته من زوجتي إلين. لقد توفيت قبل أربعة أشهر من الآن وتركتني وأطفالنا الخمسة وثلاثة عشر من الأحفاد والحفيدات، وقد ورثنا عنها جميعا دفاعها المستميت عن قيم العدالة، وهي قيم تعيش اليوم في قلوبنا وأعمالنا. بعد أن سمعت ذلك الكلام المؤثر والغضب الكبير من المظالم المرتكبة من زوجتي بدأت أتحدث عن عدالة القضية الفلسطينية في مختلف الاجتماعات والتجمعات والمناسبات الطلابية، وقد اكتشفت أن هذا النشاط المدافع عن القضية الفلسطينية له ثمن؟ بعد مرور بضعة أشهر، وبمناسبة عيد ميلاد زوجتي إيلين، تلقيت رسالة تتضمن تهديدا يستهدف حياتي وقد جاء فيها ما يلي: «أيها الكلب العربي، لو وضعت قدميك في الجامعة فإنك ستموت». بعد مرور بضعة أيام، كنت بصدد التدريس عندما بدأ أعضاء رابطة مناهضة الثلب اليهودية يتجمعون خارج القاعة التي كنت أدرس فيها وهم يرددون شعارات ويهتفون ويهددونني بالعنف. خرجت مجموعة من الطلاب السود الذين كنت أدرسهم إلى البهو وأبعدوا هؤلاء بكل هدوء. لقد ظل خوفنا يزداد بعد تلك الحادثة غير أن ذلك لم يفت من عزمنا أو يضعف التزامنا وإيماننا بقيم العدالة الإنسانية. بعد مرور سنة على زواجنا حملت وزوجتي حقائبنا واصطحبنا أول رضيع نرزق به وتوجهنا إلى لبنان ثم الأردن، إذ إنني قد حصلت على منحة دراسية لقضاء فترة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وجمع قصصهم عن نكبة سنة 1948. أمضيت عدة أيام وأنا أجري الحوارات. عندما كنت أهم بمغادرة مخيم عين الحلوة في لبنان أمسكتني سيدة طاعنة في السن من ذراعي وقالت لي: «الآن وقد روينا لكم قصصنا، فماذا أنتم فاعلون لنا يا ترى؟». عندما كنا عائدين على متن الطائرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية قالت لي زوجتي إيلين: «لا أعتقد أن حياتنا ستكون نفسها أبدا بعد اليوم». وفعلا فقد غيرت تلك الرحلة حياتنا إلى الأبد.بعد مرور بضعة أعوام، وعندما كنت أدرس في كلية بنسلفانيا أطلقت حملة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني – وهي عبارة عن ائتلاف يضم قادة الحركات المدافعة عن الحريات المدنية والمناهضة للحرب والزعماء الدينيين.أصبح مقر تلك الحملة المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني بمثابة بيتنا. مازلت أذكر كيف كان أطفالي يضعون الطوابع البريدية على الأظرف ويغلقونها، وهي تتضمن دعوات باسم الضحايا، كما أذكر أولئك العمد الفلسطينيين الذين استضفناهم بعد أن ساعد المحامون الإسرائيليون والنشطاء المدافعون عن حقوق الشعب الفلسطيني على إطلاق سراحهم. خلال تلك الفترة لم تكن زوجتي تبخل علي بالمساعدة، علاوة على ذلك، تنشط في عدة قضايا ومجالات أخرى. فقد أنشأت غرفة مطالعة مخصصة للأطفال في إحدى المكتبات المحلية وشكلت مجموعة نسائية وعملت مع بعض الأصدقاء على المساعدة في إنشاء جمعية تعاونية محلية - من المزارع إلى المستهلك. لقد أمضيت سنة وأنا أتنقل إلى جامعة برنستون من أجل مواصلة دراستي لنيل شهادة الدكتوراه قبل أن أعود ثانية وأمارس مهنة التدريس مدة سنة أخرى قبل أن أقرر بيع منزل العائلة وأنتقل إلى واشنطن من أجل الإشراف على إدارة حملة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني - وهي حملة غير ربحية مع ما يمثله ذلك من عدم الأمان.في تلك الفترة، كنا قد رزقنا بثلاثة أطفال. رغم ذلك كانت إيلين تدعم القرار الذي اتخذناه، وظلت على التزامها بالقضية التي كرسنا لها بعد ذلك حياتنا. شهدت العقود الأربعة الماضية فترات من المد والجزر، وقد ظلت زوجتي على مدى تلك الفترة الطويلة تساندني وتدعم ما أقوم به. فقد أنشأنا اللجنة العربية لمكافحة الثلب في سنة 1980، كما أطلقنا حملة «أنقذوا لبنان» في سنة 1982 من أجل توفير العلاج الطبي للأطفال من ضحايا القصف الإسرائيلي للبنان قبل أن ننشئ المعهد العربي الأمريكي في سنة 1985. في تلك الأثناء توقفت بعض الوقت كي أتفرغ لعملي كنائب لمدير حملة القس جيسي جاكسون في الانتخابات الرئاسية لسنة 1984 كما شاركت في رئاسة المشروع الذي أطلقه نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل جور في فترة التسعينيات من أجل تنمية الاقتصاد الفلسطيني. تواصلت التهديدات التي تستهدف حياتي، كما تعرض مكتبي في واشنطن للتهديد. لقد عشنا أيضا الضائقة المالية عدة مرات في وقت كنت فيه أتنقل هنا وهناك في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية في إطار الجهود المبذولة والرامية إلى تنظيم العرب الأمريكيين. لم تنس زوجتي إيلين أبدا فايزة، وهي طفلة صغيرة أصيبت بسبب انفجار قنبلة عنقودية انشطارية وقد استقبلناها في منزلنا من أجل الخضوع للعلاج على مدى ستة أشهر.بعد فترة قصيرة من مجيء فايزة بدأت جولة تشمل ثلاث مدن من أجل جمع الأموال لدعم حملة «أنقذوا لبنان» لم تكن فايزة تتحدث اللغة الإنجليزية، كما أن زوجتي لم تكن تتقن اللغة العربية. عندما عدت بعد ثلاثة أيام وجدت أن فايزة وبقية أطفالي الثلاثة قد تحولوا إلى فريق بأتم معنى الكلمة. منذ بدايتي مسيرتي مع الحديث في الشأن العام كانت زوجتي إيلين تقف دائما إلى جانبني وتدعم كل ما أقوم به. لقد كنت أخاطب الحضور الذين لم يتجاوزوا أحيانا الشخص الواحد. خلال السنوات الأولى، كنت أميل إلى استخدام لغة قوية، وعندما كنت أفعل ذلك كانت زوجتي تغمز لي وتلفت انتباهي كي تنبهني إلى أنني قد تماديت أكثر من اللازم. كانت في كل مرة تذكرني بعدد غمزاتها. مع مرور الوقت أصبحت قادرا على مخاطبة الحضور من دون أن تضطر زوجتي إلى الغمز واللمز. كانت زوجتي تفعل نفس الشيء فيما يتعلق بكتاباتي، وقد كانت أفضل من يراجع كتابتي ويعدل فيها وقد ثابرت على ذلك حتى آخر حياتها. كان أطفالنا يكبرون ويشتد عودهم فأصبحنا نسافر معا. حضرت زوجتي عددا من الفعاليات ضمن حملة جيسي جاكسون الانتخابية الرئاسية، إضافة إلى عدة فعاليات ومؤتمرات نظمها الحزب الديمقراطي في إطار الحملات الانتخابية. لقد سافرنا كعائلة إلى لبنان وزرنا القرية التي نشأ فيها والدي، كما قمنا بزيارة لبنان والكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات ومصر وإيرلندا، حيث بحثنا عن جذور زوجتي إيلين. لقد كانت إيلين شغوفة بإيرلندا وتاريخها، وخاصة المجاعة الكبرى والمعاناة المريرة التي عاشها الشعب الإيرلندي بسبب البريطانيين وقد رافقتها عدة مرات لزيارة إيرلندا. خلال تلك السنوات الطويلة ظلت زوجتي على التزامها الكبير ودعمها الكامل للجهود التي كنت أبذلها، والتي طبعت عملي وحياتي أيضا. لم تكتف إيلين بذلك بل إنها تبنت عدة قضايا مثل إصلاح الكنيسة الكاثوليكية والحد من السلاح وحقوق النساء. وإصلاح نظام الرعاية الصحية وحقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة الجسدية، إضافة إلى دعم بيرني ساندرز. كانت إيلين فوق ذلك كله نعم الزوجة والجدة الملتزمة والمتفانية، كما أنها كرست قيم العائلة وغرستها في أبنائها وأحفادها. اضطررت إلى التوقف عن العمل بعد أن أصيبت إيلين بجلطة في شهر نوفيمر 2019 وبقيت إلى جانبها كل يوم على مدى أشهر خلال الفترة الأخيرة من حياتها. لقد قمت برحلة واحدة خلال فترة مرضها، وذلك بعد أن ظلت تلح عليّ بنفسها. فقد طلب مني التحدث، نيابة عن بيرني ساندرز، في الفعالية التي أقيمت على هامش يوم مارتن لوثر كينج تكريما للقس جيسي جاكسون. عندما عدت إلى المنزل شاهدت معها تسجيلا لتلك المناسبة وقد أحبته. لم تبعث لي يومها بأي غمزات أو لمزات.ظلت إيلين على مدى سنوات تسهم في تعديل خطاباتي، كما أنها أثرت في روحي وجعلت مني الشخص الذي أصبحت عليه اليوم. فقد أسهم التزامها الكبير ودفاعها المستميت عن قيم العدالة في غرس هذا النهج في أطفالنا بشأن عديد القضايا مثل الحريات المدنية وإصلاح الهجرة وحقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة الجسدية وحماية البيئة والمساواة والعدالة في التعليم العالي والتعليم الأساسي. أنا وأطفالي نتاج وإرث إيلين ونحن ندين لها بالكثير. لم نكن لنصل إلى ما نحن عليه اليوم ما لم تكن في حياتنا امرأة تتحلى بكل ذلك الشغف والالتزام ونكران الذات. قد لا تفهم نخبة واشنطن مغزى الدرس، لكن نحن ندركه!{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :