تناول معلقون عرب على مواقع التواصل الاجتماعي بالسخرية والتندّر وجَلد الذات، نبأَ إقدام شركة شوكولا عالمية على سحبَ منتجاتها من واحد وخمسين بلداً بعدما تلقت شكوى من عثور مستهلك في ألمانيا على قطع من البلاستيك في أحد منتجاتها في كانون الثاني (يناير) الماضي. الشركة قالت إنها «قرّرت متطوعةً، سحبَ بعض منتجاتها كعمل احترازي». وطالبت الشركة المستهلكين الذين لديهم إحدى المنتجات المعلن عنها في قرار السحب الاتصالَ بقسم خدمة العملاء. وتركزت جلّ التعليقات المتصلة بالخبر على المقارنة بين سلوك الشركة وسلوك نظيراتها من الشركات العربية، مستذكرين أمثلة عن اكتشافات «مذهلة» في المنتجات الغذائية، لكنّهم لم يسمعوا أنّ شركة اعتذرت، أو اعترفت بخطأ، أو سحبت منتجاتها. كما أشاروا إلى أنّ وعي غالبية الشركات العربية بصحة الإنسان وسلامته وعيٌ متدنٍّ، فالمهم هو الربح «حتى لو راح المواطن في مليون داهية» كما كتب معلّق مصري. وتستبطن التعليقات، وهي في غالبيتها مرحّبة بقرار شركة الشوكولاتة العالمية، ومُدينة نظيراتها العربيات، إحساساً عميقاً بتراجع مؤشّر السلامة العامة في سلّم أولويات الشركات العربية، وهي نظرة تعميمية لها ما يرفدها، لكنها ليست دقيقة تماماً، لكنّ المستهلكين يغمضون العين عن بعض البقع المشرقة ويتعلّقون دائماً بالتجارب السلبية التي تكتظ بها الذاكرة الجمعيّة. ولئن كان في الأمر تنويه بالمسؤولية الأخلاقية للشركات، فإنه يؤشر على نحو فوريّ إلى أنّ الصناعة، مهما كان صنفها أو الجمهور المستهلك لها، فإنها إن خلت من القيم فلن تحوز ثقة الناس الذين يربطون أحياناً بين المنتج وامتداداته السياسية مثلاً، إذ نجد بعض المستهلكين يقاطعون بضاعة ما أو مشروباً أو مقهى لأنه يموّل إسرائيل، أو يتعاطف معها، أو يسوّق صورتها باعتبارها دولة ديموقراطية لا بصفتها دولة مارقة خارجة عن القانون. وحتى في أوساط صنّاع الأسلحة تجد من يعثر على مبرّر أخلاقي أو سند قيمي يمنح الصناعة مشروعية، مع أنّ غالبية تلك الذرائع لا تنطلي على النابهين الذين يقفزون إلى أبعد من أن تلك الأسلحة وجدت أو صُنّعت من أجل فرض السلام بالقوة في المحصّلة النهائية. ولن يستطرد المرء بعيداً، فيستجمع أدلة وشواهد على غلبة النزعة الأخلاقية لدى العاملين في القطاع العام، سواء أكانوا شركاتٍ أم أفراداً، ولكنّ الإحساس بالإخفاق والفشل أو بخيانة قيم الجماعة، أو التساهل في تنفيذ الأعمال، أو التواطؤ على عمل يُصادم الحق، كلها ذات مفعول مؤرّق للفرد المتورط في الفعل «المشين أو المنبوذ» وللجمهور الذي يتفاعل أو يتعاطى معه، وهو جمهور يقظ ومتماسك في لحظة الأزمة، ولا يساوم على قيمه ومبادئه، ولا يغفر، لأنّ الغفران هنا يعادل الاشتراك في «الجريمة»! وليست تلك أفكاراً طوباوية أو دوغمائية، بل هي جملة من القواعد المشتركة التي تأسس عليها الاجتماع العام في الدول المتمدّنة. المسؤول في أوروبا يستقيل، أو يُقدَّم للمحاكمة، ويلوذ بالصمت والنسيان، لكنّه في اليابان ينتحر، كيلا يظل مطارداً ومحاصراً بمشاعر العار. في العالم العربي الأمر مختلف على الأغلب، حيث لا اعتراف بالفشل، ولا شفافية في إشهار الذمة المالية، ولا اعتذار عن أزمة أو مشكلة حتى لو كانت تسمم بضعة أفراد في مطعم، أو انهيار بناية سكنية. الصدفة هنا هي من يتحمّل المسؤولية، وربما الحظ، والقسمة والنصيب، وربما تعرُّض المصابين بالتسمم لنوبة برد، أو تأخر الضحايا تحت الأنقاض في البناية السكنية، عن إبلاغ الجهات المختصة بتخاذل شركة البناء وتلاعبها في المواصفات والمقاييس. ربما تخسر شركة الشوكولا العالمية بعضَ الأموال، لكنّها ستكسب حتماً ثقة الناس.. إنّه درسٌ بليغ تقدّمه لنا الشوكولا...! * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :