دفع تعرض أكثر من 10 في المئة من أفراد طاقم حاملة الطائرات الأميركية “ثيودور روزفلت" إلى الإصابة بفايروس كورونا، وزارة الدفاع الأميركية إلى البحث عن استراتيجية عسكرية جديدة قادرة على مواجهة تداعيات الأوبئة على الصعيد الأمني والعسكري أمام تحذيرات العلماء بمواصلة المخاطر الصحية، وستكون الروباتات القاتلة والسفن البحرية ذاتية القيادة وقود الحروب المستقبلية وستؤجج نزاعات الكوكب الموبوء.
واشنطن – حقق فايروس كورونا المستجد ما لم يتمكن أي خصم من خصوم الولايات المتحدة من القيام به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. حيث أُجبرت حاملة طائرات أميركية، “يو.أس.أس ثيودور روزفلت”، على تعليق عمليات الدوريات. وبحلول الوقت الذي وصلت فيه السفينة إلى جزيرة غوام بالمحيط الهادئ، كان المئات من البحارة قد أصيبوا بالمرض، وكان يجب حينئذ إجلاء طاقم السفينة بأكمله تقريبا.
وشهدت ثيودور روزفلت أولى حالات تفشي الوباء في الجيش الأميركي في مارس الماضي، حيث أصيب نحو ألف من أفراد الطاقم وتوفي بحار بالفايروس. ورغم انتشار أنباء تفيد أن ما لا يقل عن 40 سفينة حربية أميركية أخرى، بما في ذلك حاملة الطائرات “يو.أس.أس رونالد ريغن”، ومدمرة الصواريخ الموجهة “يو.أس.أس كيد”، قد تفشى بهما المرض أيضا. إلا أنه لم تقترب أي من هذه السفن من حجم الإصابات على متن سفينة ثيودور روزفلت.
أدت قضية ثيودور روزفلت إلى استقالة قائد سلاح البحرية توماس مودلي، وخلفه كينيث بريثويت، الذي أعلن الأدميرال غيلداي عن معاقبته. وتحول تفشي الفايروس على متن الحاملة، التي تدار بالطاقة النووية، إلى سجال سياسي وعسكري في الولايات المتحدة. وأصبح من الواضح تماما أن الاستراتيجية الأميركية الراسخة للاعتماد على السفن الحربية الكبيرة المدججة بالسلاح لفرض السلطة وهزيمة الأعداء لم تعد مستدامة تماما في عالم يعاني من أزمة الجائحة. وقد فرضت الأزمة الصحية على وزارة الدفاع الأميركية أن تجمد على مدى شهرين كل تنقلات جنودها حول العالم، بما فيها عمليات إرسال الجنود إلى مناطق القتال أو إعادتهم إلى وطنهم، وذلك في إطار مساعيه لكبح الوباء.
ومع إجبار القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها على البقاء في عزلة عن بعضها البعض، أصبح من الصعب إجراء التدريبات والعمليات المشتركة المعتادة للتدريب والقتال، ووضعت بذلك حالة الطوارئ الصحية البنتاغون في مواجهة مباشرة مع الوباء وتداعيات انتشاره على أنشطته العسكرية وباتت مطالبة بالبحث عن بدائل استراتجية جديدة.
على المدى القصير، استجاب مسؤولو الدفاع الأميركيون لمثل هذه النكسات بالالتجاء إلى بدائل مؤقتة، بما في ذلك إرسال قاذفات قنابل نووية من طراز “بي 1”، و”بي 2”، و”بي 52” في مهمات عرض القوة في المناطق المتنازع عليها مثل بحر البلطيق أو بحر الصين الجنوبي. وقد أطلق الجنرال تيموثي راي، قائد قيادة القصف الشامل في سلاح الجو، تصريحات مطمئنة بعد عدة عمليات من هذا القبيل “لدينا القدرة على إطلاق النيران في أي مكان وفي أي وقت، ويمكننا التحكم في قوة نيران هائلة، حتى أثناء الوباء”.
ومع ذلك لا تعد هذه الإجراءات كافية لتبديد القلق، وحتى إذا تلاشى الوباء في المستقبل غير البعيد وعادت الحياة إلى طبيعتها، فقد يكون ذلك غير كاف، حيث يحذر العلماء من أن فايروس كورونا من المحتمل أن يستمر لفترة طويلة وأن اللقاح -حتى إذا تم تطويره بنجاح- قد لا يثبت فعاليته إلى الأبد. علاوة على ذلك، يعتقد العديد من علماء الفايروسات أن المزيد من الأوبئة، التي قد تكون أكثر فتكا من فايروس كورونا، يمكن أن تظهر في الأفق، مما يعني أنه قد لا تكون هناك عودة إلى “الوضع الطبيعي” في فترة ما قبل الوباء.
في هذه الحالة، اضطر مسؤولو البنتاغون للاعتراف بأن الأسس العسكرية لاستراتيجية واشنطن العالمية -خاصة النشر المتقدم للقوات القتالية بالتعاون الوثيق مع القوات المتحالفة- ربما أصبحت غير سارية المفعول. واعترافا بهذا الواقع الجديد القاسي، بدأ الاستراتيجيون الأميركيون في وضع مخطط جديد تماما للحرب المستقبلية، على الطريقة الأميركية: خطة ستنهي، أو على الأقل تقلل إلى حد كبير، الاعتماد على المئات من السفن الحربية الكبيرة، وستكثر من الاعتماد بدلا من ذلك على الروبوتات القاتلة وعدد لا يحصى من السفن غير المأهولة والقواعد البحرية.
تجلى ذلك أعقاب انتشار الوباء، حيث وقع تسريع خطط البحرية لاستبدال السفن الكبيرة المأهولة بالسفن الصغيرة غير المأهولة. وقد ساهمت عدة عوامل بالفعل في هذا الاتجاه: من أهمها ازدياد تكلفة السفن الحربية الحديثة مثل حاملات الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية والطرادات المسلحة بالصواريخ. وكانت أحدثها “يو.أس.أس جيرالد فورد”، التي كلفت 13.2 مليار دولار أميركي ولا تزال لا تعمل حتى الآن وفقا للمواصفات. لذلك وحتى مع إمكانيات البنتاغون المالية الوفيرة، لا يستطيع إلا أن يبني القليل منها. كما أنها أثبتت أنها معرضة بشكل متزايد لهجمات الصواريخ المضادة للسفن والطوربيدات التي تطورها قوى مثل الصين، وأرضا خصبة لتكاثر الأمراض المعدية.
بدأ الإستراتيجيون الأميركيون في وضع مخطط جديد للحرب المستقبلية، ينهي الاعتماد على المئات من السفن الحربية وسيكثر من الاعتماد على الروبوتات القاتلة
يشير ذلك إلى صعود الحرب الروبوتية البحرية، التي ستكون وقود المعارك المستقبلية. وتتبنى القيادة العليا في البنتاغون مثل هذه الرؤية وهي تحظى بدعم الرئيس دونالد ترامب أيضا، وترى أن الشراء السريع لهذه السفن الآلية ونشرها هي أضمن طريقة لتحقيق هدف البحرية المتمثل في أسطول مكون من 355 سفينة في الوقت الذي يشهد ركود حركة ميزانيات الدفاع، وظهور الأوبئة المتكررة، وتصاعد التهديدات الخارجية.
وأشار وزير الدفاع مارك إسبر في فبراير أن “إحدى الطرق التي يمكن أن تصل بها إلى مستوى أسطول من 355 سفينة هي الاتجاه نحو بناء سفن مأهولة بأعداد قليلة من أطقم العمل، والتي بمرور الوقت يمكن أن تصبح ذاتية القيادة. وتابع “يمكننا البدء بسفن مأهولة بأعداد قليلة من أطقم العمل. يمكننا بناؤها حتى يتم تشغيلها بشكل اختياري، وبعد ذلك، اعتمادا على السيناريو أو التكنولوجيا، وفي وقت ما يمكن تحويلها إلى سفن آلية غير مأهولة، وهذا سيساعد على زيادة أعدادها بسرعة كبيرة، وأعتقد أنه يمكننا الوصول إلى 355 سفينة، إن لم يكن أكثر، بحلول عام 2030”.
ومن أجل البدء في تنفيذ مثل هذه الخطة الجريئة، طلب البنتاغون 938 مليون دولار للسنتين الماليتين التاليتين لشراء ثلاثة نماذج أولية كبيرة للسفن غير المأهولة، و56 مليون دولار أخرى للتطوير الأولي لسفينة سطحية متوسطة الحجم غير مأهولة. وإذا أثبتت هذه الجهود نجاحها، ستطلب البحرية 2.1 مليار دولار أخرى من 2023 حتى 2025 لشراء سبع سفن كبيرة غير مأهولة قابلة للنشر ونموذج أولي من سفينة سطحية متوسطة الحجم غير مأهولة.
واستنادا إلى تقارير الصحافة العسكرية، فإن أكثر ما يمكن معرفته عن مثل هذه السفن المستقبلية هو أنها ستشبه المدمرات المصغرة، التي قد تكون بطول 200 قدم، مع عدم وجود أماكن لأفراد الطاقم ولكن مجموعة كبيرة من الصواريخ الموجهة وأسلحة مضادة للغواصات. سيتم تجهيز هذه السفن أيضا بأنظمة كمبيوتر متطورة تمكنها من العمل بشكل مستقل لفترات طويلة من الزمن وتتخذ إجراءات هجومية من تلقاء نفسها أو بالتنسيق مع سفن أخرى غير مأهولة.
وفي ما يبدو من غير المحتمل العودة إلى عصر ما قبل كورونا، بدأ البحث الآن عن إقامة استراتيجية جديدة لعمليات الجيش والقتال البحري للسنوات القادمة. وفي تخطيطه بعيد المدى، يضع الجيش اعتمادا أكبر على قوة من الروبوتات، أو على الأقل أنظمة “مأهولة بشكل اختياري”. ويسرع الجيش أيضا في تطوير أنظمة المدفعية والصواريخ بعيدة المدى التي ستجعل الهجمات على مواقع العدو من خلف الخطوط الأمامية أكثر أهمية في أي معركة مستقبلية مرتقبة.
الوباء يتحدى التكنولوجيا
يثير الكشف عن ملامح للسفن الحربية الآلية في أعالي البحار أسئلة مقلقة. وهي إلى أي درجة، على سبيل المثال، ستكون هذه السفن قادرة على اختيار الأهداف بمفردها للهجوم والإبادة؟ لم تقدم البحرية حتى الآن إجابة مناسبة على هذا السؤال، مما أثار القلق بين المدافعين عن الحد من التسلح وحقوق الإنسان الذين يخشون من أن مثل هذه السفن يمكن أن تبدأ أو تصعد الصراع بمفردها.
إضافة إلى ذلك هناك مخاطر تفشي الأوبئة على متن هذه السفن، وهي معضلة تواجهها القوات القتالية البرية أيضا. ويبدو أنه من الصعب تطبيق الاستراتجية الأميركية التي تعتمدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي “القتال في الخارج”، أي على أراضي العدو أو بالقرب منها بدلا من أي مكان بالقرب من الولايات المتحدة. وأثبتت هذه الرؤية في زمن الأوبئة عدم استدامتها: أولا، يكاد يكون من المستحيل عزل الآلاف من الجنود الأميركيين وأفراد أسرهم (الذين غالبا ما يرافقونهم في عمليات نشر طويلة المدى) من السكان المحيطين. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تنتشر الفايروسات والعدوى داخل القواعد العسكرية مما ينذر بحدوث نتائج عكسية.
وهذا في الواقع، حدث في العديد من القواعد الخارجية هذا الربيع. على سبيل المثال تم إغلاق معسكر همفريز في كوريا الجنوبية بعد إصابة أربعة ضباط عسكريين، وأربعة مقاولين أميركيين، وأربعة موظفين كوريين جنوبيين بفايروس كورونا. وتم تطبيق الأمر نفسه على العديد من القواعد في اليابان وجزيرة أوكيناوا عندما أثبت اختبار الموظفين اليابانيين إيجابية إصابتهم بالفايروس (ومؤخرا، عندما أصيب العسكريون الأميركيون في خمس قواعد هناك بالفايروس).إن استمرار الأوبئة سيجعل من المستحيل تقريبا على القوات الأميركية العمل جنبا إلى جنب مع حلفائها، خاصة في الدول الأكثر فقرا التي تفتقر إلى مرافق صحية كافية. وهذا ينطبق بالفعل على العراق وأفغانستان، حيث يعتقد أن فايروس كورونا انتشر على نطاق واسع بين القوات المحلية الحليفة، وقد أمر الجنود الأميركيون بتعليق مهام التدريب المشتركة معهم.
وفي حال كان العلماء على صواب بشأن استمرار الفايروس لفترة طويلة، وسيتبعه في العقود القادمة أوبئة أخرى، فإن التهديدات المستقبلية الحقيقية للأمن الأميركي قد تكون اقتصادية، وليست عسكرية. حيث قتل الوباء الحالي بالفعل عددا أكبر من الأميركيين أكثر من الذين ماتوا في الحربين الكوريتين وفيتنام مجتمعتين، بينما تسبب في أسوأ ركود اقتصادي منذ الكساد العظيم.