تحوّلت البرلمانية التونسية عبير موسي إلى ظاهرة لافتة، ليس في بلادها فقط وإنما في المنطقة العربية، وأصبحت قصة خبرية عابرة للحدود، تلهث وراءها وسائل الإعلام، وتحصد فيديوهاتها ملايين المشاهدات، فالمحامية التي اختارت المواجهة مع الإسلام السياسي منذ سنوات من باب الوفاء لمقومات الدولة الوطنية التي أسسها الحبيب بورقيبة منذ الاستقلال في العام 1956، واعتبرها أنصارها أيقونة المقاومة ضد مشروع الإخوان، استطاعت أن تشكل حالة استثنائية كامرأة تتزعم حزبا وترأس كتلة برلمانية وتنتصر لمبادئها بصوت عال، وتحدّ واضح ليس فقط للطرف المقابل الممثل في حركة النهضة وحليفها ائتلاف الكرامة، وإنما للساحة السياسية ككل أيضا، عبر جهد يومي لتحريك المياه الراكدة، التي عادة ما يستغلها الإخوان للمزيد من التمكن والتحكم بمفاصل الدولة. منذ البدء رفعت موسي لاءاتها الثلاث: لا اعتراف ولا حوار ولا تفاوض مع الإخوان، ولا تفاهم ولا تحالف ولا شراكة؛ لا اعتراف بالربيع العربي ومخرجاته، ولا صمت ولا مهادنة مع الإرهاب وداعميه والمتحالفين معه والمتسترين عليه والمدافعين عنه محليا وإقليميا ودوليا. وأكدت في مناسبات عدة، أنها تدرك حجم الدور الذي اختارته لنفسها، وحجم المخاطر التي تواجهها، فهي تسير في حقل ألغام سبق وأن انفجر تحت أجساد الكثيرين ممن اختاروا مواجهة الإسلام السياسي، والتصدي لمشروعه الذي يهدف إلى استغلال الدين في خدمة مشروعه السياسي، تحت شعارات ديمقراطية، عادة ما تنتهي إلى تكريس دكتاتورية، ستكون من الصعب مواجهتها، إذا اشتدّ عودها، وتمكنت من مفاصل السلطة والمجتمع، وجعلت من بنيتها العقائدية بنية عقائدية للدولة ككل. يبدو أن عبير موسي أدركت ما يحاول أغلب الساسة في بلادها، بمن فيهم رموز اليسار، التستر عليه، أو التعايش معه، أو تعمّد عدم التصادم معه، وهو أن تونس دخلت منذ العام 2011، فلك الإسلام السياسي، الذي يتبنى مشروعا عابرا للحدود، ومتجاوزا للدولة الوطنية، ومتحالفا مع شركائه الدوليين، تحت غطاء أيديولوجي، ومنظومة دولية متشعبة الأهداف والمصالح والأدوات، وأن هذا المشروع يتناقض تماما مع مشروع الدولة الوطنية بخصوصيتها الاجتماعية والثقافية والحضارية، وبنموذجها المجتمعي ومزاجها العام المنسجم مع عنصري التاريخ والجغرافيا، والذي ينبثق منهما بروح الشخصية التونسية المعتدلة والمنفتحة والرافضة للتطرف والغلو والتبعية للآخر. لم تخف موسي مواقفها، وكانت دائما منسجمة مع نفسها؛ رفضت أن تضع يدها في أيّ يد امتدت لتصافح الإسلاميين، أحيت روح الحزب الدستوري الذي تأسست لبنته الأولى على يد عبدالعزيز الثعالبي في العام 1920، ثم تزعم بورقيبة في العام 1934 جناحه الجديد، ليقود به معركة الاستقلال، ثم معركة بناء الدولة، وهو الحزب ذاته الذي قاد مسيرة الحكم حتى العام 2011 قبل أن يتم حلّه بقرار قضائي اجتثاثي، كان الهدف من ورائه إفراغ الساحة من إرثها السياسي العريق، وقلب موازين القوى لفائدة القوى “الثورية”، وهو ما استفاد منه الإسلاميون في ظل خيبة اليسار، والقوى الليبرالية العاجزة عن التواصل مع أغلب فئات الشعب. بعد حل الحزب الحاكم السابق، اختار عدد من قياداته وأنصاره البحث عن مساحة ظل تحت غطاء النهضة، لكن موسي كان لديها من الشجاعة ما جعلها تتزعم الحزب الدستوري الحر، بروح تاريخ طويل من المقاومة، دون أن تتنكر لدولة الاستقلال في عهديها البورقيبي والنوفمبري، وعندما وصلت إلى البرلمان كان هدفها أن تخدم المشروع الذي آمنت به، وهو التصدي لمشروع الإسلام السياسي. ويبدو أن الإسلامويين أعطوها الفرصة لذلك، بكثرة الأخطاء التي ارتكبوها، حيث إنها ومن موقعها كرئيسة كتلة معارضة، تخصصت في تصيّد تلك الأخطاء والتي ارتبطت بالخصوص بتحركات رئيس البرلمان راشد الغنوشي على الصعيد الخارجي، واندماجه بشكل مفضوح في المشروع القطري والإخواني، وخاصة في ليبيا، واعتماده على مقربين منه من خارج المجلس في إدارة ديوانه، وخروجه في مناسبات عدة على القانون الداخلي، ومحاولات حلفائه في ائتلاف الكرامة لاستفزازها وكتلتها وبعض الأطياف السياسية الأخرى، برفع صورة الرئيس الإخواني المصري السابق محمد مرسي في قاعة الجلسات، أو الدفع بعناصر من مجالس حماية الثورة المنحلة أو ممن يشتبه في علاقتهم بالإرهاب إلى دخول البرلمان. وعندما تعلن موسي رفضها ذلك، تتعرض للهجوم عليها، ولمحاولات تشويهها وتعنيفها وشن حملات ضدّها في وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، وصولا إلى تهديدها بالتصفية والاغتيال. استطاعت موسي خلال فترة قصيرة أن تشكل حزبا بعقيدة وطنية حداثية بورقيبية تونسية، وأن تفرض حالة من الانضباط داخله، وأن تدفع به إلى المركز الأول في نوايا التصويت، وفق آخر استطلاع للرأي، وأن تتحول إلى زعيمة سياسية من الطراز الأول، وأن تكسب تعاطف طيف واسع من القوى المدنية، بما فيها اليسار، وأن تكشف عن تناقضات السلطة ومؤسساتها في ظل هيمنة الإخوان، وأن تجعل اللعبة السياسية أكثر حرارة، وأن ترتقي بمستويات المنافسة السياسية إلى مستويات عالية، وتعطي للديمقراطية التونسية بعدا مختلفا، هو الصراع المبدئي والعملي، خارج أوهام التوافق، الذي استغلته النهضة منذ تسع سنوات لتنفيذ مشروعها، ومن أجل المزيد من التغلغل في مؤسسات الدولة. تميزت موسي إلى حد الآن بحضور مهمّ على مسرح الأحداث، وبفصاحة وقدرة على الخطاب والاسترسال في التعبير عن مواقفها وآرائها، إضافة إلى طاقة هائلة على توجيه دفة الأزمات والظروف نحو المسارات التي تخدم مشروعها، وتتميز كذلك بذكاء اجتماعي وإعلامي، وصلابة نفسية، وبتمكّن من أدوات المواجهة. كما لا يستطيع أيّ كان أن ينكر على موسي شجاعتها وجرأتها في إدارة معاركها، ودأبها على الدفاع بشراسة عن قناعاتها، وصبرها على الأذى، وإصرارها على تحقيق أهدافها السياسية ولو كلفها ذلك حياتها، لذلك تحوّلت إلى زعيمة وقائدة في عيون أنصارها، وإلى ظاهرة لافتة في تونس وخارجها وإلى صوت يخترق الآفاق، وقصة خبرية يومية عابرة للحدود.
مشاركة :