السلطة كما نمارسها اليوم ظاهرة جديدة في تصورها القانوني تسيطر على المشهد السياسي العربي فوضى عارمة تعبر عن نفسها في أشكال مختلفة، البعض منها سياسي، والآخر اقتصادي، دون أن نستطيع إهمال أو القفز فوق، تلك السمات الاجتماعية التي تطل برأسها بين الحين والآخر. فمن المغرب العربي حتى اليمن «السعيد»، تجتاح المجتمعات العربية موجة عاتية من اللا استقرار، التي تنم في جوهرها عن ضعف السلطة السياسية لدى العرب، واقترابها من مستوى التضاؤل في العديد من البلدان العربية، وفي فترات متعاقبة. يمكن توصيف حالة الضعف التي نتحدث عنها في العلامات البارزة التالية: • حضور أجنبي غير مسبوق في تاريخ البلاد العربية الحديث، بل وحتى المعاصر، مكثف على مستوى بعض الأقطار كل على حدة، ومنتشر أفقيًا على المستوى العربي الشامل. لم يعد هذا الحضور مقتصرًا، كما عهدناه، على دول عظمى تصل أساطيلها محيطات العالم، ويعربد طيرانها العسكري في الأجواء العربية دون حاجتها إلى نيل إذن مسبق، وتسيطر أجهزة مخابراتها على مقدرات بلداننا العربية. بل بتنا نشهد اليوم بمرارة المشهد نفسه يتكرر، لكن بعد أن زجت بنفسها فيه قوى دول إقليمية، سارعت إلى الممارسة ذاتها، مستغلة الكثير من علامات الوهن التي تنهك قوى منظومة الجسد العربي، مستفيدة من غياب القرار العربي الاستراتيجي الذي يردعها. لم يعد التدخل الأجنبي في دوائر صنع القرار العربي مقتصرًا على بريطانيا أو أمريكا فحسب، ولا الاتحاد السوفياتي أو فرنسا فقط، بل باتت تشاركهم في ذلك التدخل، دونما خجل او وجل، دول من مستوى تركيا وإيران. • معارك ضارية وطاحنة ولفترات طويلة تتجاوز العقود في أزمانها، تستخدم فيها أشرس الأسلحة وأشدها فتكا، وأكثرها تطورًا بين جيوش عربية، بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحقق فيها انتصارات أو هزائم، يكون دائمًا أطرافها عربية، مما يفقد الانتصارات حلاوة طعمها، ويبقي على مرارة الهزائم، عندما تكون المقاييس عربية وليس قطرية. تندلع الحروب لأسباب غير مفهومة عربيًا، وتستمر في عبثية غير مبررة أيضًا، وتتوقف دون منطق، كي تستأنف من جديد دون أهداف مفسرة. • صفقة تجارية ضخمة، وذات أمد طويل، تعقد في فترات زمنية خاطفة، لكنها تحمل في أحشائها تبعات اقتصادية ليست في مصلحة الطرف العربي، ولا تمده بما يحتاجه في الحاضر من مقومات النمو والتطور، ولا تزوده في المستقبل بعناصر الإبداع والابتكار التي باتت من مكونات الجودة، ومتطلبات المنافسة. توقعها جهات ليست هي المناط بها، ولا من صلاحياتها القيام بذلك. تشهد على ما نقول أسعار النفط العربي، الذي باتت تتحكم في أسعاره، وصفقات بيعه، في بعض الدول العربية، عصابات تسيطر عليها مافيات عالمية، اغتصبت ذلك الحق بفضل سيطرتها على مناطق بها آبار للنفط الخام، أو مصاف لتكريره. السمة الأكثر حضورًا في خضم تلك الحالة غير المسبوقة، هي تضاؤل حضور السلطة العربية المركزية في أفضل الأحوال، وتعددها في أحوال أخرى كثيرة، نشهدها في دول مثل ليبيا واليمن، بل وحتى العراق، وتسبقها جميعًا لبنان وسوريا. وما تجدر الإشارة له هنا هو أن هذا الغياب هو حالة قسرية. ومن ثم فهي ليست قرارًا عربيًا ينطلق من قوة سياسية عربية لجأت لذلك الخمول أو التضاؤل بقرار ذاتي، بقدر ما هو محصلة طبيعية، بل ومنطقية لحالة التدهور العربي الشاملة التي تجتاح المنطقة العربي. ولم يعد من الممكن التغاضي عنها، أو تجاهلها. بل ينبغي التنبيه لتبعاتها، والتحذير من مخاطرها الحالية القائمة والمستقبلية القادمة. ولكي نتمكن من تحديد حجم الخطورة التي تمثلها هذه الحالة من غياب السلطة العربية أو تضاؤلها على حاضر المشهد السياسي العربي، والطاقة التي تختزنها كي تهدد مستقبله، ينبغي مناقشة قضايا مفصلية بحاجة إلى أجوبة مثل: هل لمفهوم السلطة السياسية حضورًا في تاريخ العرب السياسي، القديم منه والمعاصر؟ وهل، بالتالي شكلت ركنًا لا يمكن تجاوزه في حصيلة الإنتاج الفكر العربي، وعلى وجه التحديد في مراحل ازدهار ذلك النتاج، قبل أن يعرف التراجع؟ وهل يملك الفكر السياسي العربي الحديث، أو يتطلع نحو نيل ذلك الهامش الكافي من الحرية والحقوق الذي يبحث عنهما، ويحتاج لهما كي يمارس دوره الطبيعي والصحيح في آن، لبلورة منظومة تشكل الحاضنة القادرة على بناء النموذج المناسب، كي تمارس القوى الحاكمة دورها السياسي الذي تستمده من سلطتها؟ قبل الوصول إلى إجابات على تلك التساؤلات ينبغي العودة إلى مفهوم السلطة في الفكر الإنساني، وتتبع تاريخ تطورها في ذلك الفكر. ولعلّ الخطوة الأولى على هذا الطريق الاستعانة بفقرة مطولة لكنها ذات دلالة عميقة على ما نحن بقصد التوصل له وردت في مقدمة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي بعنوان، «أشكال وأسس الممارسات الموصلة للسلطة السياسية في الدولة». من إعداد الطالب: مولود طبيب، وتحت إشراف: د. مبارك نجـاح. تؤكد تلك الفقرة على «إن السلطة كما نمارسها اليوم في حياتنا السياسية تعتبر إلى حد كبير ظاهرة جديدة في تصورها القانوني، وفي وظائفها الاجتماعية، وفي أجهزتها الإدارية، وإن ظلت طبيعتها الأساسية قائمة وراء هذه الصور الجديدة. ذلك أن المجتمعات البشرية خلال تطورها الحضاري الطويل مارست السلطة في حياتها الاجتماعية، بل إن تلك الممارسة كانت من أسباب بقائها، وتطورها، فالسلطة سمة عضوية من سمات أي تنظيم بشري، وقد ظل الإنسان يعيش دائمًا في مجتمعات منظمة على نحو من الأنحاء، فالإنسان الاجتماعي إنما يمكن تصوره ابتداءً من كونه عضوًا في جماعة، بل إن الإنسان كما أنه البيولوجي نفسه لا يمكن تصور وجوده إلا في جماعة، وجماعة تتفتح في نطاقها استعداداته العقلية والنفسية، فتكسبه التنشئة الاجتماعية هذه المهارات التي يواجه بها البيئة الطبيعية، وتشربه الأنماط السلوكية التي يتعامل بها مع البيئة الاجتماعية».
مشاركة :