وسواء اعترف مهندسو السياسة العربية المعاصرة أم حاولوا النكران، فمحور العمل السياسي الذي يسيطر على تفكير أي قائد، أو تنظيم سياسي معين هو السلطة، والعلاقة بينها وبين النظام الذي سوف يقام فوقها، وطريقة الاستفادة منها في تنفيذ مشروعهم السياسي، والدفاع عنه لضمان الموازنة بين استمرار الحكم من جانب، وقدرة ذلك الحكم على مواجهة منافسيه، الداخليين منهم او من هم خارج محيطه السياسي، من جانب آخر. وهكذا تبقى السلطة وحدودها هما محور أي مشروع سياسي يبحث عن إطار جغرافي يجسد نفسه من خلاله، وفترة زمنية ينعم فيها بصلاحيات ممارسة تلك السلطة التي يحلم بها من يقف وراءه. يتبلور في فضاء الفكر السياسي العربي في صيغ مجموعة من التساؤلات التي بحاجة إلى إجابات من لدن صاحب، او أصحاب، ذلك المشروع السياسي، من بين الأهم في قائمتها: كيف سيضمن المشروع الموازنة العادلة بين قوى المجتمع المختلفة؟ كيف سيتم توزيع السلطة، وتنظيم العلاقة كي تصبح إيجابية وبناءة بين قواها المختلفة المتنازعة (بكسر العين) عليها؟ وكيف ستضمن موازين قوى السلطة عدم تنامي اختلافاتها كي لا تبلغ مرحلة الصدامات العنيفة بدلاً من حلها في إطار مؤسساتها وفق طرق تقوم على الحوار بدلاً من الصدام؟ ولعل الفكر السياسي اليوناني القديم هو أول من تصدى لمعالجة مثل هذه التساؤلات في سياق بناء النظام السياسي الإغريقي. نجد ذلك عند أرسطو الذي ركز على ذلك من خلال قدرته على التمييز بين مجموعة من النظم السياسية، قسمها وفقًا للحكومات التي تسير أعمالها تلك النظم، فتنشأ بموجبها الحكومات المختلفة التي تتميز الواحدة منها عن الأخرى بطرق إدارتها للسلطة، فوجدنا لديه على سبيل المثال لا الحصر أنواع مختلفة من الحكومات مثل: الحكومة الدستورية، والحكومة الارستقراطية، والحكومة الأوليغاركية. ويتطور أمر السلطة لاحقًا عند أفلاطون الذي تحددها بنية تفكيره المرتكزة على البعد الأخلاقي، المشوبة ينكهة مثالية جسدتها مكونات «مدينته الفاضلة». ولم يكن العرب بعيدين عن تلك الاجتهادات الباحثة عن تعريف السلطة، كي يبنون عليها منظومة دولتهم الإسلامية الآخذة في الاتساع بعد انطلاقتها من الجزيرة العربية، كي تصطدم بحضارات وفكر مختلف، يستمد شرعية سلطته من خلفيات فلسفية، لم يكن الفكر السياسي اليوناني سوى الأبرز بينها. انكب الفلاسفة العرب، وغير العرب في أحضان الثقافة الإسلامية، وخاصة في العصر العباسي، على محاولة التأصيل للدولة كمفهوم، وما يتبع ذلك من توزيع السلطة داخل المجتمع الذي تسيره، من خلال تحديد مهام الحكومة، ودوائر سلطتها، وطريقة بناء أسس الحكم، وعناصر العدل الذي يأخذ بها. هذا ما جعل الفلاسفة المسلمين، كما يقول نبيل فازيو، يركزون اجتهاداتهم على «فقه الدولة في الثقافة الإسلامية (نظرًا لـ) اتصاله الفريد بسؤال المشروعية الدينية التي مثلت رأسمالٍ رمزي من دونه لا يستقيم استئثار الدولة بالحكم. وهي ملاحظةٌ لا تُقال فقط عن اللحظات التأسيسية للدول المتعاقبة على الملك، بل إن الحاجة إلى خطابٍ مُشَرْعِنٍ غالباً ما نشأت في رحم لحظات الأزمة التي ما فتئت تهز كيان الإمبراطورية الإسلامية، والعباسية منها تحديداً». ولربما تعود للفقيه الشافعي أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي (974 – 1058)، اجتهادات سبق بها نظيره الفيلسوف الأكثر شهرة عند الحديث عن السلطة، وهو أبو يزيد عبد الرحمن بن خلدون، الذي ولد في تونس سنة 1332م، وشب في ربوع الأندلس. ولذلك وجدنا ابن خلدون في الكثير من كتاباته يجتهد كي ينجح في «تأويل آراء الماورديّ، وتحويلها إلى قواعد سياسيّة في نظريّة العمران البشريّ». وللكاتب طالب الدغيم بحث مطول جميل يرصد فيه محاولات ابن خلدون القيمة في التأسيس لمفهوم السلطة، وعلاقتها بالدولة، ومن خلال ذلك بالحاكم، ويميز في سياق ذلك بين بعض عناصر الاختلاف بين ابن خلدون والماوردي عند تناولهم لموضوعة السلطة، ويرى دغيم أن «سبب اختلاف نظرة كلّ منهما لشرط النسب عائد ربّما إلى طبيعة العصر الذي عاشاه، فالماورديّ عاش في القرن العاشر الميلاديّ، في فترة التنازع بين المسلمين على الخلافة، أمّا ابن خلدون فهو ابن القرن الرابع عشر، ولم يعد للخلافة أهمّيّة مركزيّة في زمانه، وباتت سلطة رمزيّة ليس إلّا، وبرزت الكثير من السلطات الإسلاميّة في المشرق والمغرب داخل الخلافة، ولذلك دعا إلى ضرورة إحياء الحكم على أساس الإمامة والخلافة، لأنّها الوحيدة الضامنة للاجتماع البشريّ». ولا يمكن من يبحث عن مفهوم السلطة عند الفلاسفة المسلمين أن يتجاوز اجتهادات أبو نصر محمد الفارابي، (874م - 950م)، التي لخصها هو الآخر في «مدينته الفاضلة»، لكنه الأهم من ذلك كله، كان دوره الذي لا ينكر في «نقل أفكار أرسطو من اليونان القديمة إلى الغرب المسيحي في العصور الوسطى». وكان لذلك أثره البالغ في اجتهادات الفلاسفة الأوروبيين بشأن السلطة. وقد وجدنا الكثير من العلماء والفلاسفة المسلمين من حرصوا على عدم حرق سفنهم مع دوائر صنع القرار في الدولة الإسلامية، ومن بينهم المتكلم الأشعري الكبير، أبو حامد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام وصاحب كتاب «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرين». وقد قام الغزالي بتأليف ذلك الكتاب تلبية لطلب من الخليفة العباسي، أبو العباس أحمد بن عبد الله، الملقب بـ «المستظهر بالله». مثل تلك الإضاءات السريعة، تكشف أن هناك إرثًا عربيًا غنيًا تناول موضوع السلطة، وحاول التأصيل لها في نطاق محاولة أولئك العلماء الأوائل التمييز بين أنواع السلطات، وتحديد دور كل منها في بناء النظام السياسي. لكن ما يجعل تلك المحاولات تختلف اختلافًا جذريًا عن نظيراتها الغربية سواء القديمة منها وهي الإغريقية، أو الحديثة كما صاغها فلاسفة من أمثال هوبز، وروسو، وراسل، هو ما يلخصه الباحث حسن علي الأسدي حين يقول، «كون الاول من خلال البحث اعتمدوا على قانون وضعي للدولة والسلطة. وينظم جميع شؤونها بما فيها تداول السلطة وطبيعة انتقالها في المجتمع عن طريق الانتخابات المباشرة وغير المباشرة للشعب. أما الفكر الاسلامي جاء بتعاليم إلهية متمثلة في القران الكريم والسنة النبوية لتحقيق دولة إسلامية. وهذا ما نراه... بالرغم من وجود آليات مشتركة بين الغرب والدول الاسلامية كالانتخابات والفصل بين السلطات الدستورية لكن تبقى آلية العمل مختلفة بين بين الغرب والإسلام».
مشاركة :