ذلك هو مضمون الديمقراطية في عمقها، وتختبئ في تلافيف الوعي السياسي لها وطالما نحن بصدد الغوص في أعماق مفهوم السلطة ودلالتها المختلفة، اصطلاحًا ومفهومًا، فالأمر يقتضي التمييز، من أجل إزالة اللبس المستقر لدى البعض، عند مطابقتهم غير الصحيحة بين مفهومي: الدولة والسلطة. هذا أمر يبحثه بعمق تأصيلي أستاذ العلاقات الدولية في جامعتي دمشق والفرات شاهر إسماعيل الشاهر في دراسته الموسعة الموسومة «دراسات في الدولة والسلطة والمواطنة»، إذ نجده يقول «فمن الضرورة بمكان العودة إلى أن نجد ثمة خلط بين مفهومي السلطة والدولة في التداول بين رجال الإعلام والسياسة وبعض المفكرين، على الرغم من أن الإدراك المعرفي يفترض وضع مساحة لتحديد معايير السلطة، ومعايير الدولة، باعتبار العلاقة بين السلطة والدولة علاقة تركيبية، فالسلطات الحاكمة قد اتخذت أشكالاً عدة عبر حركة التاريخ، وتبنت قيمًا ومفاهيم قد تعتبر متناقضة، لكنها في الأغلب لم تتبنَ فهمًا لموقعها في مساحة الزمن، ومن هنا كانت السلطات الحاكمة تتبدل، أو تعيش مراحل تغير، بعضها يطول، والآخر يقصر، وكما أنه يمكن أن يتم تفسير الدولة بالسلطة، فالسلطة لا تعني الدولة بالضرورة، كما أن الدولة ما كانت أبدًا تلك الفكرة المتهافتة التي تفسرها بعض النظريات ضيقة الأفق والتي سعت إلى تبني أفكار غير منهجية في محاولة منها لإرضاء الحاكم، ففسرت الدولة باعتبارها مساحة من الأرض تسكنها مجموعة بشرية وهذه الأخيرة يقودها حاكم». والسبب الرئيس الكامن وراء الربط بين الدولة والسلطة في أذهان الكثيرين منا، هي أن السلطة، وتحديدًا السلطة السياسية، تعد واحدة من أركان الدولة الرئيسة الثلاثة وهم: الأرض والشعب والسلطة السياسية. مثل هذا التعريف الضيّق الأفق، كما يشير إليه الشاهر أعلاه، هو الذي حثّ بعض العلماء على تفسير نشوء الدولة وتطور أجهزتها، وتنامي حضورها في حياة المجتمع وأفراده، من خلال القوة ذاتها، المستمدة من السلطة. واستل هؤلاء مجموعة كبيرة من نشوء الدول التي أسست على مرتكزات القوة، إذ إن خضوع الناس، لدى هؤلاء، «لأي شكل من أشكال السلطة، يتناسب طرديًا ودرجة القوة، أو السيطرة التي تتمتع بها الدولة، كفرد أو أجهزة على الناس». وعودة لتاريخ نشوء الدول، وجدنا من يسيطر على الدولة، ينعم بتلك السلطة التي كان يبحث عنها، والتي تمكّن ذلك المسيطر، بكسر الطاء، فردًا كان أم مؤسسة يحاول أن يستولي على تلك السلطة، من خلال قوة معينة ربما تكون في حالات معينة مجردة غير ملموسة. فرأينا فرعون مصر، على سبيل المثال لا الحصر، كي يبسط سلطته يقول «أنا ربكم الأعلى». كل ذلك لا يعني تطابق مفهومي «السلطة» و«الدولة». وهذا ما يحاول أن يصل إليه الكاتب مجد خضر، حين يحاول أن يميز السلطة عن الدولة، من خلال رصد مميزات الأولى منهما، التي يلخصها في السمات التالية: • الموافقة أو عدم الموافقة على القرارات التي يتمّ اتخاذها ضمن مجال السلطة. • منح الصفة القانونية للإجراءات، والمهام التي سيتمّ تطبيقها. • تحديد صلاحيات كل فرد، وقسم تابع للسلطة. • تطبيق الصلاحيات الواردة في النصوص القانونية من فرض العقوبات؛ بسبب وقوع الأخطاء، وإعطاء المكافآت لتحفيز الأفراد للعمل بشكل أفضل. • المشاركة في وضع وتطبيق الخطط الخاصة بالمشروعات المستحدثة ضمن بيئة العمل. • متابعة ومراقبة تطبيق الميزانية المالية للعام المالي بشكل مستمر. وقد فرضت السلطة نفسها على سلوك الإنسان، عندما كان، وما يزال، يسعى لتنظيم علاقاته مع الآخرين، سواء أولئك الذين صنفهم في خانة المناوئين، أو الموالين له. ولذلك حظيت السلطة، كمفهوم وممارسة باهتمام ذلك الإنسان، ونالت قسطًا من أنشطته، يكشف ذلك عدد الدراسات، ومحاولات المفكرين، وعلى وجه الخصوص علماء الاجتماع والسياسة منهم الذين حاولوا تعريف السلطة، وفهم سعي الإنسان المستمر لوضعها بين يديه، والاستفادة منها لتحقيق طموحاته، الفردية منها والمجتمعية. هذا ما ينجح أستاذ قسم العلوم السياسية بكلية القانون والسياسية في جامعة السليمانية، إحسان عبدالهادي النائب، في دراسته الموسعة «مفهوم السـلطة وشرعيتها: إشكالية المعنى والدلالة»، حين يجتهد كي يضع تعريفًا موسعًا للسلطة، باعتبارها «شكلاً من أشكال القوة، فهي الوسيلة التي من خلالها يستطيع شخص ما أن يؤثر على سلوك شخص آخر. إلا أن القوة تتميز عن السلطة، بسبب الوسائل المتباينة التي من خلالها يتحقق الإذعان أو الطاعة. فبينما يمكن تعريفها على أنها القدرة على التأثير على سلوك الآخرين، فإن السلطة يمكن فهمها على أنها الحق في القيام بذلك. إن القوة تحقق الإذعان من خلال القدرة على الإقناع، أو الضغط، أو التهديد، أو الإكراه أو العنف. أما السلطة فهي تعتمد على (الحق في الحكم) مدرك ومفهوم، ويحدث الإذعان من خلال التزام أخلاقي ومعنوي من قبل المحكوم». هذا ما جعل بعض الباحثين في مركز الغمام الشيرازي، ونقل أوراقهم العلمية موقع «شبكة النبأ» الإلكتروني، يذهبون إلى مستوى اعتبار «السلطة ضرورة اجتماعية تطمح إليها مجتمعات الإنسان بدافع الخوف وتحديدًا الخوف من الفوضى، وينغرس الإيمان بها باللاوعي الاجتماعي للإنسان رغم الكراهية المستبطنة لها في أعماق الإنسان كفرد يعيش حلم الانتماء، لكنه وهم يخلقه عنت السلطة كمؤسسة تترسخ في الانتماء وتتشرّع في فكرة الانتماء، ولذلك كانت فكرة الأكثرية وقبول الأقليّة محاولة في التخفيف من وطأة الكراهية للسلطة في المجتمعات الحديثة وتمريرًا لإمكانية الانتماء، وذلك هو مضمون الديمقراطية في عمقها، وتختبئ في تلافيف الوعي السياسي لها في التعبير الضمني المستمر عن الكراهية للسلطة التي تختبئ بنفس الوقت في تجاويف اللاوعي للإنسان». هذا يوصلنا إلى الاجتهادات المختلفة في وضع تعريف محدد للسلطة، بعيدًا عن مدلولها اللغوي الذي يرد معاجم اللغة في «مادة «سَلطَ»، فيقال في اللغة: سَلَّطَ يُسَلِّطُ تَسْلِيْطًا وسَلاطَةً. و(السَّلاطَةُ): القَهْرُ، وقِيل: هو التَّمَكُّنُ من القَهْرِ، والاسم سُلْطَة بالضَّمِّ. و(السُّلْطَةُ) هي التَّسَلُّطُ والسَّيْطَرَة والتَّحَكُّمُ، فيقال: (سَلَّطَهُ): أي أَطلَقَ له السلطانَ والقُدرة. و(سَلَّطَهُ عليه): أي مَكَّنَهُ منه وحَكَّمَه فيه. و(تَسَلَّطَ عليه): تَحَكَّمَ وتَمَكَّنَ وسيْطَرَ، ومنه: تسلَّطَ الأميرُ على البلاد: أي حَكَمَها وسيطَر عليها».
مشاركة :