من يتمعن برويَّة الواقع العربي المعاصر، يكتشف دون عناء إضاعة ذلك الواقع فرصة بناء نظام سياسي معاصر، يوفر له تلك السلطة المطلوبة التي تحقق سلامة مكونات الدولة الحديثة، ومقومات استقرار مجتمعاتها التي تسيرها. بل سيكتشف أيضًا، وهو الأهم، شيخوخة السلطة السياسية العربية وتهالكها، عندما يقاس أداء وكفاءة عمر هذه السلطة بمعايير سياسية معاصرة. هذا لا ينفي إن هناك شكلاً من أشكال سيطرة الدولة العربية وهيمنتها، على النظام السياسي العربي. لكن يكشف هذا الأمر في التقويم السياسي الحديث، ذلك الفرق الشاسع بين سيطرة الدولة القسرية على أمورها وهيمنتها الإلزامية عليها من جهة، وبين وجود نظام يقنن تلك السيطرة كي يوفر للدولة تمتعها بالاستقرار المنشود، ويمدها بولاء طوعي من لدن من تنظم أمورهم تلك السلطة من جهة ثانية. ولعل أفضل عمل فني جسد هرم السلطة العربية التي نشير لها هو الفيلم المغربي الذي حمل عنوان «البحث عن السلطة المفقودة». هذا العمل من إنتاج محمد الكغاط، وتتقاسم بطولته نفيسة بنشهيدة وعز الدين الكغاط. يعالج الفيلم موضوعة السلطة العربية الشائخة التي يعتبرها المنتج في عداد السلطات المفقودة. يجري ذلك من خلال معالجة مبطنة تجسدها علاقة دكتاتور عربي متقاعد يقع في حب مغنية مشهورة، التي لا تجد في الحياة الباذخة التي توفرها لها ثروة ذلك الديكتاتور ما كانت تنعم به من حياة غنية مع محبيها من المعجبين بها. كان ذلك الديكتاتور يمارس شتى أنواع السلطات، بما فيها تلك التي تتمتع بصفات الإغراء، تجاه تلك المغنية. لكنه يفشل فشلاً ذريعًا في كسب قلبها. ربما تكون المغنية قد قبلت أن يكون جسدها خاضعًا لسلطة ذلك الديكتاتور، لكن فؤادها وعواطفها، ومن ثم ولاءها كانوا جميعًا، وبشكل عفوي، بعيدًا كل البعد عنه، يحلقون في دنياها الخاصة بها، وهي التي عهدتها قبل الارتباط به. كانت العلاقة بينهما تجسد سيطرة قائمة ومتجددة، ولدتها سلطة مفقودة. هذا التمييز الواضح بين السلطة والسيطرة نجده واضحًا لدى المفكر الفرنسي بيير بورديو، الذي يعتبر السلطة «بمثابة نظام معقّد، يخترق كلّ العلاقات والترابطات، التي تشتغل داخليًّ، بواسطة آليّات دقيقة وفاعلة، تتحكّم في البنية العامّة لذلك النظام. وبعبارةٍ أخرى، تعدّ بنية الحقل حالة من حالات توزيع الرأسمال النوعيّ الذي يوجّه الاستراتيجيّات اللاحقة بما أنّه روكم أثناء الصراعات السابقة. إنّ هذه البنية التي تولّد الاستراتيجيّات الهادفة إلى تغيير تلك البنية نفسها، تدخل نفسها دومًا في اللعبة». مثل هذا التمييز بين السلطة والنظام التي تختاره لبسط سيطرتها، نجده واضحًا أيضًا، بحكم المعايشة اليومية، لدى الكاتب ثامر الخفاجي، في بحثه عن الحلقة المفقودة بين السلطة والنظام في العراق. يرى الخفاجي أن مقاليد السلطة في العراق، الذي لا يختلف عنه أي نظام عربي آخر، إلا في التفاصيل، تتحكم في النظام السياسي ومقدراته بتعكزها «على نظام هش باسم دستور وضعوه يتفق مع كل ما يحقق مآربهم في استباحة بلد كان يعد في طليعة بلدان الشرق الأوسط، حيث القانون يفرض سطوته في كل ميادين الحياة حتى ولو بنسبة 50%». يصل الخفاجي إلى هذا الاستنتاج كونه يقصد بالنظام «مجموعة الأحكام والقواعد المتناسقة والمتكاملة المتفاعلة فيما بينها، أو هو ضابط لأعمال الأفراد في أي مجال؛ أي بمعنى القانون الذي ينظم عمل السلطة، إذا عرفنا أن السلطة تعني الاستخدام الشرعي للقوة بطريقة مقبولة اجتماعيًا، وهي القوة الشرعية التي يمارسها شخص أو مجموعة على الآخرين. ويعد عنصر الشرعية عنصرًا مهمًا لفكرة السلطة وهو الوسيلة الأساسية التي تتمايز بها السلطة عن مفاهيم القوة الأخرى الأكثر عمومية». مثل هذه السلطة السياسية، عندما تتجاوز حدودها المنطقية التي يقننها دستور متفق عليه بين من يمارس السلطة ومن يتلقاها كي تصل إلى حالة الإطلاق المنافي للنسبية، تبدأ مسيرتها نحو التهاوي والتهالك. فمنطق الحياة يقول «لا سلطة مطلقة إلا للكائن المطلق، فكل سلطة في المجتمع سلطة نسبية ومحدودة. ولما كانت السلطة السياسية سلطة دولة في الدرجة الأولى، وسلطة حاكم في الدرجة الثانية، فقد وجب أن تكون حدودها حدودًا لسلطة الدولة، وحدودًا لسلطة الحاكم. وإنه لصحيح أن ما ينطبق على سلطة الدولة ينطبق على سلطة الحاكم، إذ إن هذه مستمدة من تلك. فسلطة الحاكم سلطة حقيقية تامة، وإن كانت سلطة تفويضية، لا يحق لها أن تتماهى مع سلطة الدولة». هذه النسبية في ممارسة السلطة تقف في وجه محاولات السلطة العربية في سعيها لتحقيق سيطرة مطلقة، فطالما يحكم النظام العربي ناس من البشر، هم بطبيعتهم لا يملكون سوى سلطة نسبية غير مطلقة، ينبغي أن يعي هؤلاء أن سلطتهم نسبية وتتفاعل بشكل طردي مع طبيعة وشدة قوة المجتمع الذي يحكمه أولئك الحكام من البشر. مثل هذا التناقض بين الرغبة في الوصول إلى السلطة المطلقة، ورفض القبول، بأن السلطة مهما بلغت سيطرتها تبقى نسبية، هو الذي يفقد السلطات العربية سيطرتها المطلقة التي تحلم بها، ويولد التناقض الذي يجرد تلك السلطة من نفوذها. ويواجه النظام العربي ممثلاً في دوله عند معالجة موضوعة السلطة مجموعة من الصعوبات التي تقف في وجه الوصول إلى المعادلة الصحيحة التي تبني سلطة سليمة ترتكز على وجود نظام فعَّال. نجد مثل هذا التوصيف واضحًا في دراسة «سلطة الدولة بين المبدأ والواقع»، التي قدمها الدكتور ناصيف نصار لـ «منتدى الفكر العربي» في ندوة «دولة السلطة وسلطة الدولة» المنعقدة في يناير 2007. هذا التناقض هو الذي يولد الصعوبات التي تواجهها السلطة العربية حين تمارس سيطرتها. وكما يقول الكاتب عباس موسى بأن «الصعوبات التي تواجهها سلطة الدولة لكي تستقيم بحسب ماهيتها أربعة أصناف: صعوبات متعلقة باحترام استقلالية أفرادها وحرياتهم، وصعوبات متعلقة باحترام المساواة فيما بينهم في الحقوق والواجبات الطبيعية وأمام القانون، وصعوبات متعلقة بتفسير الشؤون العامة والمصالح العامة، وصعوبات متعلقة بتكوين الشعب وتجانسه ووحدته ووعيه بأنه حقًّا يحكم نفسه». تأسيسًا على كل ذلك، نجد أن سلطات النظام العربي، مهما بلغت سيطرتها الظاهرية الشكلية، تبقى تلك السلطة ناقصة، في أفضل الأحوال، ومفقودة على أرض الواقع.
مشاركة :