لا يمتلك القادة العظماء عصا سحرية تجعلهم يصلون إلى مراكز مرموقة، رغم كثرة الموهوبين في العالم، كما أن العباقرة ليسوا قلة، إلّا أن البيئة الأسرية قد تقتل مواهب كثيرة وتدمّر قدرتها على الإبداع وتسلبها كفاءتها، وأحيانا تدفعها إلى اتخاذ قرارات صادمة. يمثل الآباء المحرك الرئيسي للقدرات الإدراكية والمعرفية والمهارات الطموحة لأطفالهم، وهم بذلك يساهمون بدور كبير في تحديد ملامح مستقبلهم وتهيّئتهم لاعتلاء مراكز قيادية. ويقدم الخبراء رؤية فريدة حول مزايا التربية الأسرية في بناء الهيكل العقلي والنفسي للأطفال منذ مراحل مبكرة من العمر، لكي يصبحوا قادة، من خلال عملية التدريب والتعلم والملاحظة، فالقيادة هي مجموعة من المهارات التي يمكن تعلمها من خلال الملاحظة والممارسة والخبرة مع مرور الوقت. وكما هو الحال في مختلف جوانب الطبيعة البشرية تقريبا، فإن الصفات والميول التي يرثها الصغار من آبائهم يمكن أن تلعب دورا كبيرا في تحديد ملامح شخصياتهم وحتى مكانتهم الاجتماعية عند الكبر. فإذا كان الوالدان على سبيل المثال خجولين للغاية، تزداد فرص أن يتسم الأبناء أيضا بهذه السمة التي قد تتحول إلى علة تشعرهم بالشلل في مواقف الحياة المختلفة. لكن الخجل وحده لا يمكن أن يعيق النجاح. فعلماء النفس يشددون على أهمية التجارب التي يمرّ بها الطفل، خلال سنوات عمره المبكرة، في تكوين شخصيته. ويتمثل الأمر المحوري في الطريقة التي يتصرف بها الأبوان مع أطفالهما. ويقول فريق من العلماء إن هناك أكثر من جين واحد مسؤول عن الذكاء، وإن وجود هذه الجينات عند الأطفال، تترك أثرا كبيرا على ذكاء الأطفال، وهي المسؤولة عن ثلثي الفوارق الفردية في الأداء الأكاديمي للتلاميذ، وقد دفعهم ذلك إلى الافتراض أن هذا التأثير الأساسي للعامل الوراثي يعطي فرصا أكبر للأشخاص في الوصول إلى المراكز القيادية، فيما اعتبر البعض منهم أن توفير الخدمات التعليمية والصحية لكل أفراد المجتمع يعتبر تبذيرا للموارد ما دامت الطبيعة هي التي تقرر الموروث العقلي للأشخاص. وتحدث روبرت بلومين، أستاذ علم الجينات السلوكي بمركز الطب النفسي الاجتماعي والجيني والتنموي بمجلس الأبحاث الطبية في جامعة كينغز كوليدج بلندن في كتابه الذي يحمل عنوان “مخطط”، عن المواهب ومدى تأثرها بالحمض النووي للآباء، وقال إن العوامل الوراثية يمكن أن تؤثر على قدرة الشخص لكي يصبح بطلا. ويعتقد بلومين أن العالم النمساوي سيغموند فرويد، وجّه المجتمع إلى النظر في الاتجاه الخاطئ للبحث عن أجوبة بشأن ما يجعلنا كأفراد ما نحن عليه. وهذا ما دفعه إلى القول إن “المفتاح لفهم طبائعنا وشخصياتنا لا يرتبط بتربية الأهل لنا، بل بما ورثناه بيولوجيا منهم، وتحديدا الجينات”. ويرى بلومين أن نسبة 50 بالمئة من شخصية الإنسان وقدراته العقلية تحدّدها الجينات، أما النسبة المتبقية فتكتسبها من البيئة المحيطة والتربية الأسرية، وقد لا تخضع في معظمها للمحيط والبيئة، بل وأيضا إلى “الأحداث غير المتوقعة”. ويذهب بلومين إلى أبعد من ذلك في ربط العوامل البيئية بالموروثات الجينية، بمعنى أن تلك العوامل البيئية هي إلى حدّ كبير ترجمةٌ للسمات الجينية. ويمثل هذا الجدل العلمي محورا دائما للمعركة الدائرة منذ عقود طويلة حول قوة المقياس الجيني في التنبؤ بصفات القادة والأبطال، وما تمخض عنه من نظريات ترجح أن الأشخاص يولدون إما عباقرة أو أغبياء ولا دخل للتربية الأسرية أو الدراسة أو التدريب الشخصي في ذلك، لكن البعض الآخر يعارض بشدة هذا الرأي، وقال إن العكس هو الصحيح. لكن رغم كل هذا الجدل، توجد أدلة كثيرة تشير إلى أن طبيعة التنشئة تؤثر على شخصية الطفل وأن الآباء يمكن أن يلعبوا دورا كبيرا في توجيه أبنائهم نحو الأفضل، وجعلهم أكثر مثابرة وابتكارا وإبداعا. في الواقع، يؤكد العلماء منذ سنوات طوال أن معدل ذكاء البشر يزداد بنحو ثلاث درجات من جيل إلى آخر. ويشار إلى ظاهرة ارتفاع درجات اختبارات الذكاء من ثلاثينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا باسم “تأثير فلين” نسبة إلى جيمس فلين، باحث أكاديمي من نيوزيلندا، وهو أول من توصل إلى هذه الفكرة. ويرى بعض الباحثين أن لا أحد يولد جراحا للمخ أو عازفا لآلة تشيلو أو رئيسا أو بطلا رياضيا، إذ يتطلب الأمر بذل جهود مضنية وممارسة جادة، كما أنها مسألة معقدة. وقال أندرس إريكسون الباحث في علم النفس “يتعجب الناس من قدرة الموسيقار موتسارت ولاعب الغولف تايغر وودز على تحقيق مثل هذا الأداء عالي المستوى في سن صغيرة. إذ يبدو من المستحيل تقريبا أن يفسر التدريب ذلك، لكن إذا نظرنا بعين الدقة، سنجد أنه في جميع هذه المواهب، كان أحد الوالدين يساعد الطفل، ويبدأ ذلك غالبا في سن عامين أو ثلاثة أعوام”. وأضاف إريكسون “من الواضح أن هذه المواهب هي نتاج نوع من التدريب تحت إشراف معين، ساعدهم على تحقيق المهارات التي ظهرت في وقت لاحق في سن مبكرة جدا”. وأوضح إريكسون قائلا “إذا نظرنا بالفعل إلى ما كان يستطيع موتسارت أن يعزفه وهو طفل، سنجد أن هذا النوع من التدريب يساعد الأطفال العاديين على اكتساب القدرة على العزف، ليس فقط تلك المقطوعات الموسيقية التي عزفها موتسارت، بل وحتى مقطوعات أكثر تعقيدا”. وبدوره أكد عالم النفس الأميركي آرت ماركمان أن البشر لا يولدون ولديهم القدرة على القيام بـأمور تتطلب ذكاء، بل ينمون هذه المهارة مع مرور الوقت، موضحا أن كل عناصر الذكاء موجودة في “صندوق أدوات عقلي”، وأنه باستطاعة المرء أن يصبح أذكى من خلال دعم المحيطين به وكيفية استخدامهم للمعرفة في حل المشكلات، وهذا قد يساعده على تطوير عادات أكثر ذكاء ويهيئه لأن يكون شخصية قيادية في المستقبل. 50 في المئة من شخصية الإنسان تحدّدها الجينات، أما البقية فتكتسبها من البيئة المحيطة وشددت دراسة بريطانية حديثة على أهمية الموازنة بين مشاعر الحب والحنان والانضباط والحزم، ودورها في مساعدة الطفل على تنمية العديد من مهارات التواصل الاجتماعي مقارنة مع التربية الحازمة فقط أو تلك التي تتركه ينمو ويكبر دون انضباط. وقالت الدراسة إن الأطفال حتى حدود الخامسة من العمر الذين يتربون في بيئة عائلية محبة ومنضبطة، أو ما يعرف بـ”الحب الحازم”، تنمو لديهم قدرات وصفات شخصية أفضل من أقرانهم ممن تربوا في بيئات مختلفة نسبيا. وقال مؤلف الدراسة جين لكسموند إن “المهم هنا هو تطوير الثقة والحب والحنان المقرونة بالانضباط والحزم والصرامة”. وتشير الدراسة إلى أن صفات في الشخصية مثل الانضباط الداخلي ووضوح الهدف والغرض، والجاذبية الاجتماعية، تتطور أكثر عند الأطفال الذين يتربون في بيئة يتوازن فيها الحب مع الانضباط. ونوّهت أبحاث كثيرة إلى أهمية التربية الأسرية، التي تعتبر عاملا حاسما في تطوّر وتشكّل شخصية الطفل وتدريبه منذ نعومة أظافره على عملية اتخاذ القرار، وهو الأمر الذي سيساعده على اتخاذ قرارات مستقلة أيضا، وسيفيده كثيرا، عندما تلوح أمامه فرص في مجاله المهني، لتولي أدوار قيادية.
مشاركة :