الرحلات الأسرية أثمن تجارب يمنحها الآباء للأبناء | يمينة حمدي | صحيفة العرب

  • 8/20/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

سفر الأطفال برفقة الأسرة تجربة اجتماعية فريدة من نوعها، لما تمنحه لهم من فرص لعيش تجارب مثمرة، تساهم في تعزيز تطورهم المعرفي والاجتماعي والعاطفي وتشكيل سماتهم الشخصية بشكل ملحوظ. لا يمثل السفر برفقة الصغار خيارا محببا لدى معظم الأسر، بسبب المخاوف التي تنتاب الآباء على أبنائهم من هذه الرحلات ومشقة الاعتناء بهم وإحاطتهم بسبل الراحة، في بلد غير متعودين على قوانينه وأنظمته، ولا يعرفون كيف يتصرفون أمام التحديات الكثيرة التي قد يواجهونها، وبخلاف ذلك ثمة مصاريف مالية إضافية قد يتكبدونها، وكل ذلك يفقدهم الحماسة للسفر مع صغارهم، رغم المنافع الكثيرة التي يجنيها الأطفال من الرحلات الجماعية برفقة الأسرة. وتختلف أسباب عدم اصطحاب الأطفال أثناء السفر من أسرة إلى أخرى إلا أن معظم الآباء الذين تحدثت إليهم “العرب” تنتابهم مشاعر الخوف والتشوش المرتبطة بانتشار فايروس كورونا، ما دفعتهم إلى التخلي عن فكرة قضاء إجازاتهم في بلدان أجنبية، لأن السفر جوّا لم يعد آمنا كسابق عهده بحسب اعتقادهم. وتقول فاطمة الشابي لـ”العرب”، “أعتقد أن أجمل الرحلات بالنسبة لي هي تلك التي اصطحبت فيها ابنتيَّ وهي الأكثر رسوخا في ذاكرتي. ولا شك أن زيارة مكان جديد والتعرف على ثقافة مختلفة من الأمور التي تبهر جميع الأطفال وتنمي عقولهم”. وأضافت الشابي “السفر مع الأطفال متعة لا تعادلها أية أنشطة ترفيهية أخرى، خصوصا عندما نرى نظرات الفضول وحب الاستكشاف تلمع في عيونهم، إنها أروع من أي شيء آخر، لكن الوباء حرمنا هذه السنة من السفر، وقد وعدت طفلتيّ برحلة ممتعة العام المقبل وقضاء وقت أطول في إسبانيا”. وبعيدا عن الحديث النظري، فإن التجارب العملية للسفر ضرورية لـ”برمجة” عقول الأطفال، على نحو يعزز قوة ما يُعرف بـ”الشبكات العصبونية”، التي تنشأ في إطارها السلوكيات المتعاطفة مع الآخرين بداخلهم، وقد تبين أن الرحلات الأسرية، – التي أصبحت محدودة بسبب الوباء – تزيد الترابط النفسي بين الطفل وبين الآخرين. كما أن انهماكه في أنشطة مع أفراد أسرته، يغير طبيعة الشبكات العصبية في المخ، ويقلل من إحساسه بأن هويته الذاتية معزولة عن هويات من حوله، ويشجع – بدلا من ذلك – على الشعور بالتعاطف معهم. وبينما تشير معظم النتائج المستمدة من الاستبيانات والدراسات العلمية، أن الناس أصبحوا بسبب وباء كورونا أقل حماسة للسفر جوا وعبر المطارات، فإن الجانب المشرق هو أن الخبراء يشجعون على الرحلات بالقطارات والحافلات إلى القرى والمدن القريبة، لما تتيحه للأسر من تجارب فريدة من نوعها، على صعيد الحيلولة دون تراكم التوترات والإجهاد على المدى الطويل، وهو ما قد يخلّف أيضا أثارا إيجابية طويلة الأمد للأطفال، لاسيما في ما يتعلق بتحفيز مهاراتهم الاجتماعية ونموهم العاطفي والحركي وصحتهم العامة على المدى البعيد، وكذلك يدعم صحة العلاقة الأسرية التي تعتبر أمرا حيويا للصحة الجسدية لأفرادها. ويقترح الخبراء زيارة المنتجعات البرية والغابات بهدف قضاء المزيد من الوقت مع الأطفال في المساحات الخضراء، وهو أفضل ما يمكن أن يمنحه الآباء لأطفالهم من تجارب ثمينة في الحياة. وخلصت مجموعة من الدراسات البحثية إلى أن تمضية بعض الوقت وسط المناظر الطبيعية الخلابة، تساهم في تقليص الساعات التي يقضيها الأطفال أمام شاشات الكمبيوتر أو الهواتف الذكية، ولكنها كشفت أيضا أن الأطفال الذين احتكوا بالطبيعة ازدادوا ثقة في النفس، كما شعروا وكأن الطبيعة تلقنهم دروسا في ما يتعلق بكيفية الإقدام على المجازفات والمغامرات، وإطلاق العنان لقدراتهم الإبداعية، ومنحتهم فرصة مهمة للتدريب والتجريب واللعب والاستكشاف. الأطفال الذين يرتادون الشواطئ والمتنزهات أو الغابات يتعرضون لمستويات أقل من تلوث الهواء والتلوث السمعي الناتج عن الضجيج الأطفال الذين يرتادون الشواطئ والمتنزهات أو الغابات يتعرضون لمستويات أقل من تلوث الهواء والتلوث السمعي الناتج عن الضجيج وفي بعض الحالات، تبين أن الاحتكاك مع الطبيعة يؤدي إلى التخفيف بشكل كبير من الأعراض التي يعانيها الأطفال المصابون بما يُعرف بـ” قصور الانتباه وفرط الحركة”، إذ يوفر لهم هذا التفاعل تأثيرا مهدئا، ويساعدهم على التركيز. وتشير الأدلة بشكل عام، إلى أن الأطفال الذين يرتادون الشواطئ والمتنزهات أو الغابات يتعرضون لمستويات أقل من تلوث الهواء والتلوث السمعي الناتج عن الضجيج، ويستمتعون بتأثير الأشجار في تبريد الهواء (وهذا الأثر تزداد أهميته كلما ارتفعت حرارة الأرض). لكن من المؤسف أن وتيرة الحياة السريعة وزيادة مشاغل الآباء إضافة إلى تناقص الشعور بالأمن في المجتمعات، من العوامل التي ساهمت في تضاؤل فرص الأطفال في استكشاف الطبيعة والعالم المحيط بهم، مما يعني فقدانهم الكثير من الخبرات الثمينة التي كانت ستفيدهم خلال مراحل حياتهم المختلفة. وحذر ريتشارد لوف في كتابه “الطفل الأخير في الغابة” من “اضطراب نقص الطبيعة”، معتبرا أن الأطفال في العصر الحديث قد أصبحوا يقضون وقتا أقل في الهواء الطلق ما قد يؤدي بهم إلى مجموعة واسعة من المشاكل السلوكية. وبالرغم من أن “اضطراب نقص الطبيعة” غير مدرج في الأدلة الطبية للاضطرابات النفسية، لكن لوف شدد على أن المصطلح الذي صاغه ليس غايته الاستدلال التشخيصي الطبي، بقدر ما هو أداة وصفية لأثر الابتعاد عن العالم الطبيعي. ريتشارد لوف: الأطفال في العصر الحديث قد أصبحوا يقضون وقتا أقل في الهواء الطلق ما قد يؤدي بهم إلى مجموعة واسعة من المشاكل السلوكية ريتشارد لوف: الأطفال في العصر الحديث قد أصبحوا يقضون وقتا أقل في الهواء الطلق ما قد يؤدي بهم إلى مجموعة واسعة من المشاكل السلوكية وبيّن أن أسباب هذه الظاهرة ناتجة عن مخاوف الآباء على أطفالهم، وقيود الوصول إلى المناطق الطبيعية، وإغراء الأجهزة الإلكترونية. وأمضى لوف عشر سنوات في السفر حول الولايات المتحدة الأميركية والتحدث إلى الآباء والأطفال، في كل من المناطق الريفية والحضرية، عن تجاربهم في الطبيعة. ولاحظ أن أهم أسباب “اضطراب نقص الطبيعة” هو ما يقوم به الوالدان من “تخويف الأطفال من الغابة والحقول” مشددا على أن طوق الحماية المبالغ فيه على الصغار قد يكون سببا في حرمانهم من اكتساب العديد من المهارات التي لها تأثير كبير في تحديد مسار حياتهم. وحذر علماء اجتماع من العزل الاجتماعي الذي قد يمارسه بعض الآباء على أطفالهم، بسبب رغبتهم المفرطة في حمايتهم من الأخطار التي يمكن أن يتعرضوا لها خارج المنزل. وأكدوا أن خيار الآباء تمضية أبنائهم أوقات الفراغ أمام التلفزيون أو الكمبيوتر بدلا من إتاحة الفرصة لهم للقيام برحلات استطلاع للطبيعة، سيعيق نموهم النفسي والعاطفي، ويجعلهم في مراحل متقدمة من العمر عاجزين عن تكوين علاقات اجتماعية ناجحة، وقد يتفاقم هذا الأمر ليصل إلى حد العزلة التامة عن العالم الخارجي. وربما يتوجب على آباء العصر الحديث الاطلاع على نظرية جو بارتون، الباحثة بكلية العلوم الرياضية وعلوم التدريبات وإعادة التأهيل بجامعة إسيكس البريطانية، التي تعمل في ما يُعرف بمجال “التدريب الأخضر”، الذي يشير إلى أن ممارسة المرء لنشاطٍ وسط الطبيعة يجلب له فوائد صحية. وفي إحدى الدراسات، بحثت بارتون مقدار “الجرعة” التي يحتاجها المرء من التفاعل مع الطبيعة لكي يحصل على “دفعةٍ” تفيد صحته النفسية والذهنية. ورغم الاعتقاد السائد بأن الفوائد تزيد كلما طالت مدة هذا التفاعل، فإن بارتون كشفت من خلال الدراسة التي شملت عينة تتكون من 1252 شخصا انخرطوا في أنشطة مثل المشي والبستنة، أن التحسن الأكبر على صعيد أمورٍ مثل: الحالة المزاجية وتقدير الذات، حدث في الدقائق الخمس الأولى من “التعرض للطبيعة”. وعن هذا الأمر قالت بارتون “رأينا بوضوح تأثيرات إيجابية طوال أوقات التعرض للطبيعة، لكن أهمها كانت في الدقائق الخمس هذه؛ فقط عندما تولي اهتمامك بمسألة الصحة النفسية”. ومع استيعاب المزيد من الأطباء لأهمية الدراسات الجارية في هذا الشأن، بات العديد منهم حاليا ينصحون مرضاهم – في وصفاتهم الطبية – بقضاء وقتٍ في الهواء الطلق وبين جنبات الطبيعة، بوصف ذلك علاجا لمشكلات صحية، مثل الاكتئاب، والإدمان على الأجهزة الرقمية. ونجد مثالا على ذلك في الولايات المتحدة، حيث توجد مبادرة لتحسين الصحة في المجتمع، تحمل اسم “بارك ركس”، وهي عبارة عن خطة قومية تستهدف إعادة مد جسور التواصل بين الأميركيين والطبيعة، عبر حمل الأطباء على نصحهم في وصفاتهم الطبية بارتياد المتنزهات العامة. ومن الواضح أن اصطحاب الأسرة للأطفال أثناء رحلاتها إلى الأماكن المُفعمة بمشاهد الحياة الطبيعية أمرٌ يستحق العناية، وهو ما يعبر عنه عالم التاريخ الطبيعي جون موير في قوله “عليك أن تظل قريبا من قلب الطبيعة.. وأن تخفف من كل شواغلك والتزاماتك من حينٍ لآخر، لتُطهر روحك من كل ما يشوبها تماما”.

مشاركة :