يدعونا الله سبحانه لعدم ظُلم أنفسنا ويأتي ظُلم النفس من الابتعاد عن طريق الله سبحانه وعن نهج الرسل والأنبياء ونرى ذلك جلياً في نهج رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين وصحابته المنتجبين ؛ فهم لم يظلموا بشراً قط كي لا يكون ذلك سبباً في ظُلمهم أنفسهم ، فكم منا يظلم نفسه حتى دون أن يعلم من خلال كلامه وتصرفاته وأذيته لغيره ، فمنذ أن خلقَ الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها حرَّم فيها الظلم، ونهى عنه، وأمر عباده بالامتناع عنه، والابتعاد عن الوسائل والطرق الموصلة إليه ، فالكثير يعتقد أن الظلم يكون فقط عن طريق سلب الأموال بينما هناك عدة طرق للظلم ومنها ما يستخدمها الإنسان في حياته ومن خلال تعاملاته اليومية ، وبالتالي هو لا يظلم غيره ويؤذيه وحده فقد يمتد لعائلة كاملة ، بل أنه يظلم نفسه التي استأمنه الله عليها فيؤذيها ويسلبها الراحة في الدارين ويمنع عنها التوفيق في الحياة ويستثير غضب الجبار عليه ويُسَجّل عند الله ( ظالم ) ؛ قال الله تعالى في الحديث القدسي :(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ، وإحدى طرق الظلم التي هَدَمت بلداننا وفرّقت الشعوب وأرجعتنا قروناً الى الخلف هي الطائفية والعنصرية ، فكثير هم ممن يؤدّون العبادات المفروضة عليهم وممن يتحدثون بالأحاديث الشريفة ويرددون كلام الله من كتابه الكريم ولكن قليل من يُطبق ذلك في سلوكه وتصرفاته مع أخيه الإنسان ، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالتعايش السلمي وتَقَبّل الآخرين بكل أطيافهم وأديانهم بعيداً عن العنصرية والطائفية كي نستطيع أن نبني المجتمع ونرتقي به ونطوره وننثر بذور الخير أينما حللنا ، ويجسد ذلك حديث رسولنا الكريم : ( لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمُ ، وآدمُ من ترابٍ ) فرسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمح لشيء أن يُفرق بين بني البشر ولم يستخدم الفضل إلا بالتقوى لتكون الفيصل وهي الطريق للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وإنّ من أجمل ما قيل في التقوى كما وصفها سيد البلاغة ويعسوب الدين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يَصفُها حينما سأله أحدهم عنها فأجاب: (هي الخوفُ من الجَليل، والعملُ بما في التنزيل، والاستعدادُ ليوم الرَّحيل) ، فالتنافس هنا للقرب من الله ونيل رضوانه والجنة يكون عن طريق ما أمرنا به واتباعه كلّه وليس بعضه ومن أهم ذلك هو الأخلاق والسلوك قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم :( إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق ) وقَال: (ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء )وقَال صلى الله عليه وآله أيضاً : ( اتّق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن) أخي ، أختي عباداتك فيما بينك وبين الله تخصك أنت فقط ، ولكن تصرفاتك وأخلاقك هي التي ستتعامل بها في المجتمع فهي بينك وبين البشر ، لذلك يجب علينا أن نَتَخَلّق بأخلاق رسولنا الكريم وهو خاتم الأنبياء والمرسلين الذين انتهجوا نفس المنهج وساروا على نفس الخُطى مع أفراد مجتمعاتهم منذ اختارهم الله لتبليغ رسالته . نحن الآن في الأيام العشر من ذي الحجة أيام فضيلة في شهر فضيل وهو شهر فضّله الله تعالى لأمرين: فهو من الأشهر الحُرُم وأشهر الحج ، قال تعالى: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ)) ، هذه الأيام الفضيلة التي اختارها الله وجعل للمؤمنين فيها دعوة خاصة من لدن كريم رحيم لينالوا جنة عرضها السموات والأرض ومغفرة واسعة .. قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّم : ( إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ) ؛ففي هذه الأيام فضائل عظيمة كما جاء في كتاب الله وأحاديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي يحثّنا بها على طاعة الله والعبادة بشتى أشكالها، فيستحب فيها الصيام والصدقة والذكر والدعاء ، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله لم يرجع من ذلك بشيء” ؛ ومن الأعمال المهمة في هذه الأيام والتي قد لا ترد على أذهاننا هي مراجعة أنفسنا وأخطائنا وذنوبنا والوقوف على كل ما أقترفناه فيما مضى ونحاول تصحيحه بما يرضي الله ورسوله لنتوب توبة نصوحة ونعاهد الله على الإلتزام بما أمرنا به من الخُلق الحسن ،الرحمة والعطف ،الاحترام فيما بيننا ، التعايش السلمي وقبول الآخر مهما كان دينه وطائفته ولا نُكَفّر بعضنا ونصدر الأحكام ونُقَسّم الجنة والنار على مزاجنا ، ولا نستهزأ بطريقة عبادة شخص وعقائده وننتقص منه ، لا نَظلِم أنفسنا ولاغيرنا ، قال سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))؛ فهلموا بنا أيها الأخوة والأخوات كل منا يلبّي دعوة الله سبحانه في هذه الأيام الفضيلة ويحاول الإرتقاء بنفسه للوصول لدرجات العلى ليس فقط بالعبادات وكثرة ذكر الله بل ليكون كل منا شجاعاً ويغوص في بحر نفسه العميق وليستخرج أسوء ما فيها كي يصارح ذاته ويعترف بظلمه لنفسه ولا يُبقي رأسه مدفوناً في الطين كالنعام ، فليستغفر ربه على تقصيره و ظلمه لنفسه نتيجة ظُلمه لغيره ،وليذهب مسرعاً ليصلح ما يمكن إصلاحه مع من ظلمه ، ويَرُدّ الحقوق المعلّقة في رقبته أي كان نوعها ، تلك التي ستبقى معلقة إلى يوم الدين حتى يحين الحساب ويستردها صاحبها ، حيث لا ينفع معها استغفار مهما استغفر ومهما أدّى من العبادات لأنها بين الظالم والمظلوم ولا خلاص منها إلا بردّها إلى أصحابها سواءً كانت حقوق مادية أو معنوية ؛ فعباداتك لن تمنع عنك عقاب الله وغضبه عليك وأنت تارك خلفك قلوباً تبكي وتستغيث من ظلمك وأذيتك التي طالت من طالتهم بشتى الطرق التي استخدمتها لتكون شاهدة عليك أمام الحَكَم العدل .
مشاركة :