لا بد أن تدرك الوسائط الإعلامية دور الدين في تشكيل الوعي العام للفرد، ثم تتفهم تلك الأهمية الخاصة التي يحظى بها الديني في الوجدان العربي والإسلامي، وما له من دور حاسم في الحراك الراهن على المستويين: الاجتماعي والسياسي يُعاني العالم الإسلامي، والعربي منه على وجه الخصوص، من أزمات طاحنة، وصراعات مدمرة، تصدر في مجملها عن تصورات دينية مأزومة تضرب في عمق تاريخنا الطويل. ومع أن هذه الأزمات التي تكاد تعصف بالجميع تبدو وكأنها من نتائج الاحتراب السياسي في علاقته المباشرة بالواقع؛ إلا أنها في العمق تصدر عن وعي كُلّي ينتظمه الخطاب الديني الذي يُهيمن بشكل مباشر أو غير مباشر على مُجمل السلوكيات التي تصدر عن الجماعات أو عن الأفراد. ما يعني أن تغيير الوعي العام؛ من حيث هو شرط لتغيير الواقع، مرهون بمتغيرات جذرية لا بد أن تمس جوهر الرؤية الدينية الموروثة. وهذا لا يكون إلا بخطاب ديني جديد يجري تفعيله في الواقع على أوسع نطاق. لكن، من الواضح أن تجديد الخطاب الديني ليس مرهوناً من أوله إلى آخره بجدارة الفاعل الديني. الخطاب من حيث هو خطاب؛ ممارسة في الإعلام، الذي هو في النهاية إرادة تغيير تستهدف المتلقي. الإعلام هو شرط الخطاب، ولن يكون ثمة خطاب ديني تجديدي؛ من غير إعلام واعٍ يساوقه، بل ويتلبس به؛ إلى درجة أن يصبحا وجهان لفعالية تنويرية واحدة، تنقل الوعي المجتمعي العام من حال إلى حال. ابتداء، لا بد أن تدرك الوسائط الإعلامية دور الدين في تشكيل الوعي العام للفرد، ثم تتفهم تلك الأهمية الخاصة التي يحظى بها الديني في الوجدان العربي والإسلامي، وما له من دور حاسم في الحراك الراهن على المستويين: الاجتماعي والسياسي. وهذا يعني أن من الضروري التنبّه لحقيقة مفادها: أن الدين ليس محصورًا في الدين كفاعل سلوكي وإن ادعي له ذلك. إنه فاعل حضاري مؤثر غاية التأثير في كل الأبعاد المجتمعية، خاصة في الواقع العربي والإسلامي. ومن هنا، فمعاينته تتجاوز الاهتمام ببُعده الخاص (الديني)، إلى حيث الاهتمام بالأبعاد الأخرى المنفعلة به من قريب أو من بعيد. يقف التوتر الديني خلف كل هذا التوتر الذي نراه صراعاً واحتراباً. وخطوط التوتر الديني، أو الاجتماعي والسياسي ذي البعد الديني، لا تكون معالجتها بتجاهلها، ولا بنفيها نفياً عاماً خارج الوعي، ولا بتجريدها من المؤثر الديني نظرياً؛ بينما هي في الواقع منقوعة بالديني. هذا لن يجدي؛ لأنه لا يحل الإشكال؛ بقدر ما يترك الفرصة للآخر الذي يهدف إلى موضعة إيديولوجيته الخاصة في هذا الواقع/ الفراغ. لا بد من التركيز على الخطاب الديني العربي، حتى وإن كان المستهدف بالخطاب يتجاوز المتلقي العربي. أي لا بد من وسائط إعلامية عربية، لا تتجاهل الواقع الفكري والعملي للمسلمين كافة. إنها عربية تُعنى بالإسلامي، كبعد لا يمكن إهماله في معاينة الإشكاليات العربية الراهنة، من هي إشكاليات ثقافية في مكوناتها العميقة. لكنها مع اهتمامها بالعربي ترتبط برباط وثيق بالمحلي القُطْري في كل بلد تصدر فيه؛ لربط المحلي بالمتحول العربي الإسلامي؛ هَمّاً واهتماماً. ويكون هذا التدويل الثقافي/ الإعلامي منحصراً في المنحى الديني خاصة؛ دون تجاذبات الاحتراب السياسي. والمراد هنا أن تتفاعل جدليات التنوير؛ ولا تكون مجرد جُزر معزولة، مهددة بين الحين والآخر بطوفان الوعي التقليدي العام. ولمزيد من التوضيح: أقصد أن يتم عرض القضية الدينية، عربية كانت أو محلية، في سياق يضمن تأثيرها الإيجابي (التنويري الانفتاحي)، سواء كان التأثير ينطلق من المحلي إلى العربي أو العكس؛ لأنها ما لم تكن جدلية تفاعلية ذات بعدين: من هنا (في المحلي)، ومن هناك (في العربي والإسلامي)، فلن تكون ذات فاعلية مؤثرة في عمق الخطاب، على المدى البعيد خاصة، إذ من الواضح أن هناك نوعاً من الشرعية التي يمنحها الديني المحلي للآخر العربي والإسلامي في مشروعاته الدينية، ومن ثم في مشروعاته النهضوية عامة، كما أن هناك أثراً عميقا إذا ما تم تفعيله إعلامياً للمشروعات الثقافية الدينية في العالم العربي على الديني المحلي. طبعاً، لا يمكن تناول الديني بالطريقة التي يتم بها تناول الثقافي العام، من حيث عدم الاهتمام بالبعد المؤسساتي له، فالثقافي مهما تجاوز أنظمة وأدبيات المؤسسة لا ينفيه هذا التجاوز خارج دائرة المشروعية الثقافية، بل قد يكون ذلك هو الأجدى له ثقافياً. صحيح أن هيمنة المؤسسات الدينية هي هيمنة يجب الانفكاك منها، لكن، وأياً كان الموقف منها، لا يمكن الانفكاك منها بإطراحها نهائياً، فضلاً عن مواجهتها. والمراد هنا: أن يكون هناك احتفاء بما يصدر عن منسوبي هذه المؤسسة الدينية أو تلك، من تجاوز للسائد التقليدي وللمقولات الحادة و..إلخ. لكن يجب الحذر كل الحذر من أن يؤدي تكرار مثل هذا الاحتفاء إلى تعزيز موقع هذه المؤسسة معنوياً كمرجعية عُليا. ولهذا يجب أن يتم الاحتفاء بالمُتجاوِز للنمط التقليدي في هذه المؤسسات في بعده التجاوزي فحسب. وهنا يتحقق هدفان: الأول: تخفيف حدة هيمنة المؤسسة كأشخاص وكمقولات. والثاني: تحقيق الحد الأدنى من الانضباط المعرفي الديني، لأن من يقوم بهذا التجاوز لا يمكن أن يتنكر لآليات القراءة والتأويل التي نشأ عليها، حتى وإن أدخل عليها التعديل؛ لكونه تعديلاً مشروطاً بشروط الثقافة الدينية الإسلامية الواسعة الموروثة. ومعنى هذا أنه تجاوز منضبط بحدود المقبول إسلامياً، أي بحدود الفاعل/ المنفعل، المؤثر جماهيرياً. وبهذا لا يكون التغيير المأمول تغييراً (لا دينياً) في الديني؛ بحيث يؤدي به إلى الخروج عن دائرة المشروع. إن أهم أزمتين صدرتا عن الوعي التقليدي المأزوم، وتصدر عنهما جميع مآسي العالم العربي/ الإسلامي، هما: التخلف والتطرف. التخلف، هو نتاج أسباب كثيرة يصعب حصرها، ويرجع معظمها في ظني إلى أزمة في بنية الوعي، أي هي في النهاية أزمة ثقافة، ومن ثم فهي معنية بالسؤال الديني بشكل أو بآخر. وأما التطرف، فهو ذو علاقة مباشرة بالديني، باعتباره مصدر مقولاته. وفي ظني أن الإعلام العربي عموماً إذ يركز على الإسلام الحركي بوصفه الصانع المباشر للمتطرف، فإنه يُخطئ؛ لأن هذا، إن جاز أمنياً، فإنه لا يجوز ثقافياً. إن حركات التطرف مهما انطبعت بالحركية، وأنتجت مقولاتها الخاصة، فهي ذات بعد تقليدي أثري، أي تحكمها الذهنية التقليدية/الأثرية/ النقلية في أبعادها كافة: في رؤيتها لنفسها، وفي رؤيتها للآخر، وفي معاينتها للظواهر والأشياء، وفي تشريعها للفعل الراهن، فهي تُحكّم مقولات الماضي الغابر في المتعين الحاضر. هذه هي الحقيقة، حتى وإن تمظهرت تلك الحركات بواجهات عصرية، فهي لا تعدو أن تكون قناعاً تخلعه عما قريب. إن هذه الذهنية التقليدية/الأثرية/ النقلية هي التي يجب على الإعلام أن يتبنى مهمة الترويج لفحصها وتفكيكها، كمقولات وكأنماط تفكير؛ لأنها في لوازمها عوامل تخلف من جهة، ومخزون استراتيجي للتعصب والتطرف والإرهاب والاصطدام بالآخر من جهة أخرى. إنها تؤزم العقل الإسلامي في العمق، فتؤزم واقعه. ولهذا، فتفكيكها شرط لتجاوز المرحلة الراهنة. مع هذا، لا بد من الحذر، وأن تكون مواجهة هذا الوعي التقليدي مواجهة غير مباشرة، مواجهة تأخذ طابع طرح الرؤى البديلة القادرة على خلخلة الوعي التقليدي كوعي، بدل الكشف المباشر/ الصادم عن تأزمات هذا الوعي وتعريته معرفياً. وفي هذا المجال، نشير إلى أن هناك أطروحات تنهج هذا النهج محلياً وعربياً، فمن الضروري أن تطرح هذه الأعمال في الوسائط الإعلامية الجماهيرية، خاصة في هذا الوقت الذي تفعّل فيه روح العداء مع الآخر، ويمارس فيه القتل الوحشي بالاتكاء على مقولات تقليدية موروثة، يصعب الرد عليها تقليدياً، ولا يمكن التعامل معها إلا بإبطال مفعولها عن طريق تأطيرها بزمن إنتاجها. يجب أن تكون الأولوية الإعلامية المعنية بأي إشكال ديني في أي مكان، للأطروحات المتجاوزة في ذلك المكان قبل أي مكان آخر؛ لأن الوعي العربي عامة، والمحلي خاصة، لا زال وعياً قبائلياًً ذا طبيعة استقطابية. أي يسهل عليه قبول ما هو من محيطه (من داخل القبيلة؛ لا من خارجها). فهو بقدر ما يرتاب بالخارجي، يثق بالداخلي المألوف شكلاً ومضموناً. وهذا من أهم ما يجب التنبه له في الإعلام المهتم بتجديد الخطاب الديني؛ خاصة وأن الديني هو الأشد تماهياً مع العادات والتقاليد والأعراف، ومن ثم أكثر ارتباطاً بشروطها. أيضاً، عند طرح أسماء تقدمية فاعلة في الخطاب الديني، لا ضير أن ترافقها أسماء ذات بعد تقليدي أثري، تمتلك بعض القدرة على الحراك داخل التقليدية الأثرية. كما أن هناك أسماء لقلة قليلة تقرأ الخطاب التقليدي من داخله، ولها فيه رؤية خاصة، فهذه لا بد من طرحها باعتبارها: (تعددية تقليدية). أما الأسماء التي تتجاوز الخطاب الإسلامي كافة كحالة قفز وتطرح رؤاها الخاصة في الديني، فيجب أن تطرح بوصفها خروجاً على المشروعية الإسلامية؛ ليكون مجرد عرضها داعماً لموضوعية الرؤى التنويرية الصادرة من داخل الإسلامي. أخيراً، لا بد من الكر والفر، والإقدام والإحجام، بين الحين والآخر؛ لأن هناك أطروحات لابد من عرضها لقيمتها، ولكنها سوف تستفز التقليدي، فيحاول الاستعداء و...إلخ. فلا بد والحال كذلك من المراوحة، والدخول من بوابة التنوع والاختلاف التاريخي؛ لضمان الاستمرار في طرح رؤى التغيير دون عراقيل تقف له في منتصف الطريق.
مشاركة :