هكذا تحدث التطرف الديني - محمد بن علي المحمود

  • 12/12/2013
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن خروج التكفيري على الملأ مجاهراً بتُهم التبديع والتفسيق والتضليل والتكفير حدثاً طبيعياً من وجهة النظر الإعلامية؛ إذ لأول مرة تجد الجماهير المُتَديّنة نفسها وجهاً لوجه مع المتطرف الديني، الذي لا يقف تضليله وتكفيره عند حدود الآخرين، بل يطالها هي (الجماهير المتدينة) بصورة أولية؛ مهما كانت في تصورها الطبيعي عن نفسها مُتديّنة، بل وربما مغالية ومتعاطفة مع ظاهرة التزمت، إذ كل هذا لا يمنحها أية ضمانة تقيها كارثة أن تجد نفسها في مرمى الاستهداف التكفيري. كم اتهمنا كثير من الطيبين بالتهويل جرّاء المبالغة في التحذير؛ عندما كتبنا مراراً وتكراراً عن (التكفيري الصامت/ قعدة الخوارج) في عشرات المقالات على مدى عشر سنوات؛ دون أن يدركوا أننا لا نتكلم توهماً، بل بشواهد وأدلة، وعن خلفيات لا نستطيع الإفصاح عنها في كل الأحوال من طبيعة المجتمعات المغلقة، التي تتسم بنوع من المحافظة، أنها تتسامح مع العنف القولي/ الفكري دائماً، ومع العنف الفعلي في معظم الأحيان؛عندما يستهدف هذا العنف الآخرين الذين يقعون خارج دائرة انتمائها. صحيح أنها أحيانا قد تشجب مثل هذا العنف وقد تسعى لمنعه، ولكنها لن تصدر عنها ردة الفعل التي تماثل ردة فعلها فيما لو كان المستهدف من داخل الأنا، أي ينتمي إلى إحدى دوائر انتمائها، والتي تتفاوت في مدى صرامة التمركز حولها. ولعل في الموقف الاجتماعي المتراخي من انتهاك حقوق العمالة المنزلية ما يؤكد بقدر ما يشرح ويفسر أن النسق التقليدي المحافظ تختلف موازين رؤيته، ومن ثم موقفه من العنف تبعا لهوية المستهدفين. طالما سمع الناس (جماهير المتدينين) المنساقين وراء سدنة ثقافة النقل بفتاوى الغلاة التي تُكفّر هذا المُفكّر أو ذاك الممثل، وطالما سمعوا عن أولئك الذين يكفرون هذه الجماعة/ الطائفة أو تلك، كما سمعوا وبالتواتر أن بعض من يدّعون العلم من هؤلاء الغلاة التكفيريين يكفرون كل الدول الإسلامية باستثناء حكومة طالبان، ويدعون بفتاوى معلنة أنها الدولة الإسلامية الوحيدة. سمع الناس بكل هذا التكفير إلى درجة تطبيعه في ذاكرة المتلقي، ولكنهم لم يسمعوا مباشرة، ودونما واسطة من يضعهم في دائرة الكفر البواح، وإن تردد وتحفظ قليلاً؛ وضعهم في دائرة الضلال المبين. إدراك الناس أنهم أصبحوا هدفاً مباشراً لخطاب التكفير، هو مصدر غضب كثير منهم على هذا التكفيري، هذا التكفيري الذي إن لم يحكم عليهم بالكفر جملة؛ فقد حكم على نمط حياتهم بأنه كفر صريح، وأن ما ينجيهم منه (حكم الكفر) ليس أكثر من عُذر بجهالة أو اضطرار. وبسبب التربية المكثفة على مقولات التقليدية؛ لم يكن غضبهم بناء على فكرة التكفير ذاتها، لم يكن رفضاً للتكفير، وإنما كان مجرد اعتراض على نوعية المستهدفين. أي أن غضبهم مجرد دفاع عن الذات بدوافع سيكولوجية، لا دوافع فكرية، هم فقط يرفضون أن يجدوا من يكفرهم بمنطق المنظومة العقدية التي ينتمون إليها. ولو أن ذات التكفير وقع على المسلمين في تونس أو المغرب أو إيران أو تركستان أو تركيا أو مصر أو ماليزيا...إلخ، ممن يقيسهم التقليدي على حدود مسطرته العقدية الخاصة؛ لتسامح مع هذا التكفير، بل وربما رآه مبرراً ومشروعاً بمقتضى مفهوم البراء! من شاهد تلك المقابلة، وقرأها مُتَفَحّصاً، لا من خلال اللغة المنطوقة فحسب، وإنما من خلال لغة الجسد أيضاً، فضلاً عن اللغة الكامنة خلف هذه وتلك؛ يستطيع الوقوف على أهم عناصر الظاهرة الإرهابية/ التكفيرية، وسيجد أن أبرز مكوناتها متوفرة بصورة واضحة في ضيف المقابلة مقولة وشخصاً. ولهذا فهي (شخصية الضيف/ التكفيري) غنية بما يثري المُهتمين بتحليل الظاهرة الإرهابية على اختلاف تخصصاتهم، وعلى تنوع زوايا الرؤية التي يعاينون هذه الظاهرة من خلالها. ولعل أهم ما يسترعي الانتباه؛ ليكون فضاء للتحليل والتأويل، ما يلي: 1 الضيف كان عَيّنَة نموذجية للتحليل، إذ توفرت فيها بصورة مكثفة كل عناصر الشخصية المتطرفة/ التكفيرية/ الإرهابية. فقد بدا (غير طبيعي) من الناحية السيكولوجية. وبإمكان المتخصصين في هذا المجال تأكيد (أو نفي) ما أراه واضحاً من خلال قراءاتي كهاوٍ في هذا التخصص، وتحديداً في طريقة استجابته للمؤثرات من حوله، سواء قبل دخوله السجن أو بعد دخوله، أو حتى أثناء المقابلة التي بدا فيها لا يمتلك الحد الأدنى من التوازن الطبيعي، إذ يبدو أحيانا وكأنه يعرف أنه في حلقة ستذاع لتشاهدها الملايين، وأحياناً، كأنما يغيب عن واقع المقابلة تماماً، فيتصرف وكأنه مع مُقدّم البرنامج في جلسة خاصة لا ثالث لهما. والأعمق في الدلالة أن هذا التنقل بين حال وحال ليس انتقالاً واحداً خلال مدة المقابلة، بحيث يمكن تعليله بتعب أو فتور أو حتى غضب/ اعتراض مكتوم، بل هو يُراوح بين هذه الحال ( وعيه بأنه في مقابلة) وتلك (عدم وعيه بذلك)، وكأن من الطبيعي أن يكون غير طبيعي! هكذا هي خطرات الجنون أو تجليات البله التام. إن هذا الاضطراب السيكلوجي يؤكد أن الإرهابي لا يصل إلى قناعاته التكفيرية التي تحمل عداء غير طبيعي للبشرية جمعاء (كراهية للجميع، باستثناء بضعة آلاف ينتقيهم التكفيري بمفهوم الولاء والبراء من بين سبعة آلاف مليون من البشر هم عدد سكان الكوكب الأرضي) ؛ إلا إذا كان مصاباً بتشوهات نفسية عميقة، جعلته مستعداً لاستقبال هذا الفكر النشاز واستبطانه وتبنيه، بوصفه فكراً غير طبيعي يُلَبّي احتياجات نفسية غير طبيعية لا تستطيع الانسجام، بل ولا حتى التصالح مع بقية المخالفين، والذين هم هنا البشر جمعياً باستثناء المتفقين معه على التكفير جملة وتفصيلاً. إذن، ليس الفكر وحده هو ما أحاله إلى مجرم يمارس أشنع وأبشع صور الإجرام الفكري والعملي، بل هو الاستعداد النفسي لاستقبال هذا الفكر. ولو أن الفكر وحده كان كافياً لإحداث كل هذا التحول الدراماتيكي نحو الإجرام؛ لكان معظمنا على مثل هذه الحال من الوقوع في مستنقع الرذيلة التكفيرية، فنحن مثله تعرّضنا لقصف هذا الفكر، وحاصرنا في كل منافذ وعينا زمناً غير قليل، قرأناه طوعاً وكرهاً، وحضر في محيطنا مُبجلاً ومعظماً، بل ومقدساً إلى درجة التماهي به مع صريح قداسة الدين. طبعاً، لا يعني هذا أن الفكر من حيث هو فكر بريء من هذا التحوّل، إذ لو لم يكن هذا الفكر سائداً ويحظى بالتبجيل من رُموزٍ مَشْيَخيّة تدعي العلم؛ لم يكن ليحدث مثل هذا التحول عند هذا المتطرف. فهي عوامل فكرية ونفسية تتضافر لإنتاج ظاهرة التطرف من خلال اشتغالها على استثمار كل صور التشوهات الفكرية والنفسية، التي تعتمل في الواقع المأوزم؛ بقدر ما تعتمل في وجدان المأزومين. 2 من خلال حديث الإرهابي تتضح المرجعية الحقيقية (المرجعية أشخاص ومدارس وتيارات وكتب) التي يتكئ عليها في إصدار أحكامه التكفيرية على الدولة وعلى المجتمع. فالمرجعية ليست إلا مقولات التقليدية المتخمة بتراث تكفيري لا ينافسها فيه أي تراث آخر. بمعنى أن أحكام التكفيري الإرهابي على الوضع الراهن تنبع من مقايسة الراهن بذلك الزمن الذهبي للتقليدية، ومحاكمة كل مُكوّنات التجربة المعاصرة بتفاصيل تلك الصورة المتوهمة عن التجربة السابقة المحدودة، التي لم تصادم العصر فحسب، وإنما أيضا صادمت الإسلام في حضوره كتجربة على امتداد الجغرافيا الإسلامية بكل تنويعاتها، وبعمق تاريخ طويل يمتد لأكثر من عشرة قرون. لن تخرج التقليدية من مأزق توفّرها على أكبر مخزون للتكفير بمجرد نفيها أن تكون تكفيرية. لن تخرج من هذا المأزق الخطير؛ ما دامت لا تجرؤ على البراءة من مشوارها الطويل الذي انتهى بالتأصيل المكثف للتكفير في أصل المعتقد التقليدي. بل البراءة وحدها على استحالتها في مثل هذا الانغلاق التقليدي لا تكفي؛ ما لم يتم دعمها بمشروع تفكيكي من داخل المنظومة ذاتها، يتم على يد سدنة التقليدية أولاً، وينتهي بكشف زيف ذلك التأصيل، وتقديم الاعتذار عنه وعن آثاره المدمرة التي شوّهت عالم الوعي، وأشعلت القلوب البريئة بنيران الكراهية، وصنعت واقعاً انغلاقياً لا مثيل له، كان ولا يزال موضع استغراب واستهجان البشرية جمعاء. إن تعامل التقليدي المعاصر مع تراث التقليدية، وخاصة التراث العقدي، يعاني من الازدواجية المراوغة. فهو على مستوى التنظير العام، يؤمن ويدعو إلى الإيمان بكامل مقولاتها، بلا استثناء أو تحفظ ؛ لأن أي استثناء أو تحفظ أو حتى تردد؛ يوقعه كما يعتقد في دائرة الكفر الذي يرمي به الآخرين المحكوم عنده بكفرهم، الذين يكفر من يتردد في الحكم عليهم بالكفر (من شك في كفر الكافر فقد كفر). و في الوقت نفسه لا يجرؤ على استحضار كل المقولات وتطبيقها على أرض الواقع كما وردت عند أعلام التقليدية، بل يكتفي بالصمت عن هذا الجانب المظلم، لا اعتقاداً منه بخطئه، وإنما صيانة للتقليدية أن تصطدم بالدولة أو بالمجتمع أو بكليهما؛ فتخسر شيئاً من حضورها الطاغي الذي يمنح التقليدي مكانة متميزة لا يمكن أن يحظى ببعضها لو لم يُمارس هذه المراوغة (التقيّة!) التي تنقض عرى المعرفة قبل أن تنقض عرى الإيمان. هكذا يتم تقديم التقليدية اليوم، أي على هذا النحو الازدواجي المراوغ المليء بخداع الذات وبخداع الآخرين. لكن، ليس كل الطامحين إلى استلهام عوالم الإيمان الديني على مثل هذا المستوى من السقوط الأخلاقي المعرفي؛ بحيث يقبلون بخداع أنفسهم وخداع الآخرين على هذا النحو النفاقي المَقيت. هناك الصادقون مع أنفسهم، الذين لا يرضون أن يؤمنوا بشيء ويعلنوا شيئا آخر، ولا أن يطبقوا هذه القاعدة العقدية هنا، ويتجاوزوها هناك، أو يتنكروا لها بإخفائها أو بالالتفاف عليها لهذا السبب العملي أو ذاك. هؤلاء التكفيريون صرحاء مع أنفسهم كما هم صرحاء مع الآخرين. فعندما يؤمنون بكامل البنية الاعتقادية للتقليدية لا يرضون بغير تطبيقها على الجميع؛ لأن تطبيقها على فئة دون فئة، أو في زمن دون زمن، يسلبها جوهر محتواها الاعتقادي الذي يرون أنه هو بالذات ما يُميّزها عن بقية المدارس والتيارات والمذاهب. فلا معنى لها بدونه( التصريح بالتكفير)، إذ بدونه تصبح هي موضوعاً للتكفير، تماماً كما كانت تضع الآخرين موضوعاً له، أي تكون النتيجة هي أن تُكَفّر التقليدية ذاتها في صورة تكفيرها لوليدها الهجين. وهذا ما حدث من هذا الإرهابي الذي أنزل أحكام التكفير بكل صرامة المعتقد التقليدي على من يدعي احتكار التقلدية مفهوما وتاريخاً. 3 تشكل آليات الانغلاق على الذات بُنْية بحد ذاتها، ولكنها قادرة على إنتاج كثير من البنى الفكرية والاجتماعية إلى مدى غير محدود. أقصد أن الانغلاقي هو بالضرورة محافظ جداً، كما أن المحافظ جداً هو انغلاقي حتماً. والانغلاقي في الدين هو في الغالب انغلاقي على مستوى الرؤية الاجتماعية والثقافية. فبقدر ما هو منغرس في ثقافة تقليدية دينية محلية؛ هو منغرس في ثقافة اجتماعية محلية لا يستطيع فتح آفاقه إلى ما وراءها. ولهذا بدا التكفيري حتى في لحظة التعريف الأولي كائناً قبائلياً، أي يعي وجوده من نافذة حضوره القبلي. ولهذا اختار كنيته من اسم القبيلة التي ينتمي إليها. وهذا شيء نادر، لا يحدث إلا لدى أشد المُعتدّين بالقبيلة وقيمها. فإذا أضفنا إلى ذلك عنايته الكبيرة بعلم الأنساب(وهو ما أشار إليه المقدم، وأكده الضيف، كما أكده من كتب عنه من وحي معرفة مباشرة، إذ كان يعرفه عن قرب انظر مقال مشاري الذايدي عنه في الشرق لأوسط) أدركنا أنه يعيش على مستوى الوعي في عالم تقليدي تتضافر فيه عناصر البنى التقليدية، الدينية والاجتماعية والشخصية، بحيث يخدم بعضها بعضاً بمستويات مختلفة من التفاعل الجدلي ؛ لتنتج لنا هذا الكائن التقليدي (أصفه ب: كائن، من حيث تحوّله إلى وُجود معياري من المفترض نظرياً ألا يوجد حقيقة، أي تحوّل إلى نموذج مفترض، تُحاكم إليه الأعيان في الواقع) الذي تحاصره حلقات الانغلاق ظلمات بعضها فوق بعض، بحيث لو حدثت معجزة، فاجتاز القنطرة في بعضها؛ لردته بقيّتها إلى قاع حلقاتها المحكمة بمنطق الانغلاق. 4 الانغلاق الفكري/ القرائي الواضح. فهو يدّعي العلم، بينما لم يقرأ خلال العشرين سنة الماضي إلا ثمانية كتب، مُصرّا على رفض كل الكتب الأخرى التي يتم تقديمها له، على اعتبار أن كتبه الثمانية تغني عنها بالكامل. وهذا فضلاً عن كونه انغلاقاً أعمى، هو جهل فاضح بمفهوم العلم، بل هو محض جاهلية، فالجاهليون كما ينقل الله عنهم كانوا يتمثّلون هذا المنطق الذي يرفض مجرد الاطلاع على وجهة النظر الأخرى. قال تعالى: { وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْرٌ ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون. ربما تشي هذه الانغلاقية الصارمة التي تتراءى متدثرة باليقين التام بما يضاد هذا اليقين، أي أنها آلية سيكولوجية دفاعية يتعمدها الإنسان غير الواثق من صموده أمام شكوكه. وبهذا فهي صرامة انغلاقية تهرب بها النفسية الضعيفة المتداعية من نيران الشكوك التي تعتلج في أعماقها اللاواعية. وكأن هذه الشخصية تدرك أنها لا تستطيع تحمّل ما ينتج عن الانفتاح القرائي من تصادم وتصارع في الرؤى والأفكار؛ لأنها أضعف من أن تحاورها وتصنع يقينها الخاص القادر على اختراقها. وهذه ليست فرضية تحليلية فحسب، بل هي أيضا ما صرّح به الإرهابي عن نفسه، إذ برر رفضه الالتقاء بالمناصحين/ المحاورين أنه يتضرر نفسياً وفكرياً بعد اللقاء، وأن هذه اللقاءات لا تجعله يمارس عبادته كما يمارسها عندما لا يلتقي بهم. بمعنى أن هذه الحوارات لا تُربك فكره فقط، وإنما تربك إيمانه المتداعي، الذي ربما يشعر بصورة لا واعية أنه إيمان هش قابل للانهيار عند التعرض لأدنى فاعلية حوارية تحاصره في بدهيات معتقده الخاص. نلاحظ أن كل التكفيريين والمتطرفين يتسمون بمثل هذا الانغلاق الفكري. فهم غارقون في ثقافتهم الخاصة، منكفئون عليها، لايرون إمكانية أن تكون الحقيقة في غيرها ولو على سبيل من النسبية والاحتمال. هذه هي حقيقة كل التقليديين المتطرفين، ولا يجوز أن نغترّ بكون بعضهم ينفتح قرائياً على المتنوع الثقافي، فالقراءة لدى هذه الشريحة مجرّد تلصصٌّ بُوليسي مترصّد لما يكتبه الآخرون، أي ليست قراءة معرفية تحاور وتتفاعل مع ما تقرأ على مستوى بناء الوعي، بل كل حصيلتها من هذا الوهم القرائي لا تتجاوز الالتقاط العشوائي المجتزئ لفقرات وجُمل وإشارات (مجتزأة على مستوى الفهم، وعلى مستوى النقل، وعلى مستوى التوظيف في خطاب الإدانة) يُراد منها أن تكون دلائل مقنعة لجمهور التلقي الشفهي الذي يتلقى المعرفة والإيمان من أفواه هؤلاء المَعطوبين في معرفتهم، ومن قبل ذلك في أخلاقهم، وفي إيمانهم الذي يبدو أنه لا يقوم إلا على عكس مقاصد الإيمان. 5 لقد كشف هذا اللقاء مع التكفيري الصريح عن ذلك التكفيري الصامت، بل فضحه كما لم يُفضح من قبل على الرغم من كل ما كتب وقيل للكشف عن قعدة الخوارج. فكما أن الإحالات المرجعية مدارس وأشخاصاً والتي ذكرها الإرهابي على امتداد حديثه كشفت هوية المرجعيات الحقيقة والرمزية لخطاب التكفير، فكذلك كان التأييد (الذي أعقب نشر الحلقة من قبل بعض الذين يَتكتّمون على اعتقاداتهم التكفيرية/ الخوارجية، ويظهرون للناس في صورة المحتسبين الغيورين على حرمات الدين)، كاشفاً عن تمدد الخطاب التكفيري، وعن كونه يتخذ من بعض الأنشطة التي تُرمّزه في الفضاء جسراً يُمرّر من خلاله خطابه المغالي في التشدد التكفيري. كثيرون خدعوا بمثل هذا الخطاب الوعظي الاحتسابي المتحايل؛ رغم توافر كثير من الشواهد تشهد على عقيدة تكفيرية يستلهم منها التكفيري المتمظهر بالاحتساب منطقه في التعاطي مع واقعه. وكم أشرنا مراراً إلى مثل هؤلاء، وأكدنا ارتباطهم بالحركات التكفيرية، بل وبتنظيم القاعدة، إذ كانوا لا يدينونه إن أدانوه من حيث عقيدته التكفيرية، وإنما يكتفون بتخطئة بعض ممارساته السلوكية، من مبدأ أن لا أحد معصوم. تم تمرير هذا الخداع على كثيرين دون أن يتوقفوا؛ ليفحصوا طبيعة المواقف ومرجعية المقولات. لكن لم يكن هذا التحايل خافياً على المعنيين بتحليل الظاهرة الإرهابية، إذ هم يربطون سلوكيات الغلاة بأفكارهم، كما يربطون أفكارهم بمصادرها الأساسية في المنظومة التقليدية التكفيرية. وبهذا يدركون أن الحراك الشَّغبي الاحتسابي مصدره رؤية تكفيرية صارمة، لا تدخل مع المجتمع في أي منحى تفاعلي، سواء في التعليم أو في غيره إلا من باب أن (الحرب خدعة) وأنه يُباح فيها الكذب على (الأعداء الكافرين) وتضليلهم للإيقاع بهم، والذين هم في نظر التكفيري هذا المجتمع وأهله، إذ هم الكافر القريب الذي هو أولى بالحرب الخفية والمعلنة من الكافر البعيد. وكم اتهمنا كثير من الطيبين بالتهويل جرّاء المبالغة في التحذير؛ عندما كتبنا مراراً وتكراراً عن (التكفيري الصامت/ قعدة الخوارج) في عشرات المقالات على مدى عشر سنوات؛ دون أن يدركوا أننا لا نتكلم توهماً، بل بشواهد وأدلة، وعن خلفيات لا نستطيع الإفصاح عنها في كل الأحوال.

مشاركة :