الانتخابات العراقية المبكّرة، التي تثور حولها بعض الخلافات الشكلية، لا تمثّل بالضرورة حلاّ لمشكلات العراق وأزماته المُزْمِنة والمركّبة، بقدر ما قد تمثّل قشة الإنقاذ للنظام السياسي المتهالك الذي ظهرت دلائل كثيرة، من أبرزها انتفاضة أكتوبر 2019، على أن عمره الافتراضي قد انتهى، وأنّه بحاجة أكيدة إلى إعادة ترميم واجهته وضخ دماء جديدة في شرايينه المتصلّبة. بغداد – تخوض الطبقة السياسية العراقية جدل الانتخابات النيابية المبكرة مبحرة في تفاصيل إجرائية تبدو أقرب إلى الترف السياسي قياسا بالقضايا الحارقة التي تواجه البلد وترتقي إلى مرتبة القضايا المصيرية مثل خطر وباء كورونا والضائقة المالية الشديدة وهشاشة الوضع الأمني وسوء الأحوال الاجتماعية وتردي الخدمات العامّة الذي أعاد المحتجّين إلى الشارع وفتح مجدّدا باب المواجهة الدامية بين المتظاهرين وقوات الأمن والميليشيات المسلّحة. وطُرح إجراء انتخابات نيابية مبكّرة كحلّ للمأزق العويص الذي انتهت إليه العملية السياسية في العراق بفعل حالة الغضب الشعبي الشديد والرفض القطعي المعبّر عنه في أعتى انتفاضة شعبية انطلقت في أكتوبر من العام الماضي، للطبقة الحاكمة في مختلف مواقع القرار بما في ذلك مجلس النواب (البرلمان) الذي يقوم بدور محوري في النظام القائم حيث يدخل ضمن اختصاصاته منح الثقة لرئيس الحكومة المعيّن ومراقبة عمل حكومته وسحب الثقة من أعضائها عند تسجيل إخلالات في عملهم، لكنّ البرلمان العراقي تحوّل إلى جزء من المشكلة وأصبح أداة لممارسة الفساد وتسهيل عقد الصفقات بين الفاسدين والتغطية عليهم، ما يفسّر حالة الغضب الشعبي تجاه أعضائه. لكنّ تشكيل برلمان جديد عبر انتخابات مبكرة يبدو حلاّ أبعد ما يكون عن إقناع السواد الأعظم من العراقيين الذين يرون في الخطوة إنقاذا للنظام القائم ومحاولة لتحسين مظهره الخارجي وضخ دماء جديدة في شرايينه، بعد أن تحوّل إسقاطه إلى هدف واضح للمشاركين في التظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي خلّف التعاطي الأمني العنيف معها قرابة الـ700 قتيل والآلاف من الجرحى. وبحسب منتقدي اللجوء إلى انتخابات مبكّرة، فإنّ إجراءها في نفس الأجواء التي أجريت فيها انتخابات سابقة وبمشاركة نفس القوى السياسية، وربّما نفس الوجوه، سينتج برلمانا مطابقا للبرلمانات السابقة الذي واكب تراجع الدولة العراقية على مختلف المستويات وانهيار هيبتها أمام صعود الميليشيات المسلّحة. ويقول هؤلاء إنّ القوى التي وصلت إلى سدّة الحكم في أوقات سابقة عبر تزوير الانتخابات وممارسة الضغوط والتهديدات، لا تزال تمتلك نفس الوسائل المادية والمكانة السياسية التي استخدمتها في تزوير انتخابات مايو 2018 ولا شيء يمنعها من إعادة استخدامها في انتخابات يونيو 2021، بل إنّها تمتلك المزيد من الدوافع للحفاظ على مواقعها في السلطة للاحتماء بها من المحاسبة التي تطالب بها الجماهير المنتفضة. وفي محاولة لتطويق هذه الهواجس طُرح تغيير القوانين الانتخابية وتشكيل هيئة جديدة للإشراف على الانتخابات، لكنّ ذلك لا يحلّ المشكلة الأساسية المتمثّلة في أنّ القوى التي ستشرف على تلك التغييرات القانونية ليست سوى القوى نفسها التي تطالب الجماهير بتغييرها، والتي ستراعي مصالحها عند إجراء أي تعديلات على قوانين الانتخابات وعلى تركيبة مفوضية العليا للانتخابات. وغير بعيد عن هذا السياق يقول النائب سركوت شمس الدين إنّ الانتخابات لا يمكن أن تغير شيئا من واقع العراق دون توفر ثلاثة شروط “أولها النزاهة وثانيها إنهاء ملف الجماعات المسلحة، وثالثها عودة النازحين الى مناطقهم الأصلية”. وتقول مصادر عراقية إنّ وجود عشرات الآلاف من العراقيين في المناطق التي نزحوا إليها خلال حرب داعش بين سنتي 2014 و2017 كان وسيلة إضافية لتزوير الانتخابات النيابية الماضية إذ أن هشاشة أوضاع هؤلاء النازحين عرّضتهم للابتزاز والمساومة من قبل القوى السياسية الراغبة في الحصول على أصواتهم، فضلا عن التداخل في سجلاّت القيد الذي سمح للبعض باستخدام أسماء أعداد كبيرة من النازحين دون أن يكونوا قد أدلوا فعلا بأصواتهم. ويضيف النائب المنتمي لكتلة المستقبل في بيان أصدره الإثنين أن “هناك إصرارا على إجراء الانتخابات المبكرة، إلا أنها لا يمكن أن تصل إلى أهدافها في تغيير الخارطة السياسية في البلد ما لم تتحقق تلك الشروط”، مؤكّدا على ضرورة “أن يكون هناك عمل جدي تجاه المفوضية العليا المستقلة للانتخابات للخروج بنتائج إيجابية للانتخابات المبكرة في حال إجرائها في موعدها الذي حدده رئيس الوزراء”. وفي خضم هذا الجدل حول فاعلية الانتخابات المبكّرة في تغيير الواقع العراقي السيء، انصرف بعض السياسيين إلى مناقشة قضايا هي أقرب إلى الترف السياسي الذي لا تسمح به أوضاع البلاد، حيث اعترض بعض هؤلاء على تاريخ السادس من يونيو 2021 الذي حدّده رئيس الوزراء كموعد لإجراء تلك الانتخابات، بينما أثار آخرون قضية من يمتلك صلاحية حلّ البرلمان الحالي تمهيدا لانتخاب برلمان جديد. وأعلن هادي العامري زعيم ميليشيا بدر ترحيبه بإجراء الانتخابات المبكرة، لكنّه اعترض على الموعد الذي حدّده رئيس الوزراء، مقترحا موعدا بديلا لإجرائها. وقال العامري الذي يرأس كتلة نيابية ممثلة لميليشيات الحشد الشعبي تحت مسمّى تحالف الفتح في بيان “نرحب بإجراء الانتخابات المبكرة، ونعتقد أن الوقت الأفضل لها هو بداية شهر أفريل من العام 2021”. وتشاطر العديد من الشخصيات السياسية رأي العامري في إجراء الانتخابات المبكّرة قبل صيف سنة 2021 من أبرزها رئيس مجلس النواب الحالي محمّد الحلبوسي الذي دعا في بيان مقتضب عبر تويتر إلى إجراء انتخابات “أبكر” من الموعد المعلن من قبل رئيس الوزراء. ويتذرّع المطالبون بتقديم موعد الانتخابات المبكّرة بالإسراع بتلبية مطالب المحتجّين، لكنّ مصادر عراقية تقول إنّ دافع هؤلاء هو تضييق الهامش الزمني على مصطفى الكاظمي كي لا يجري المزيد من التغييرات مثل تلك التي أدخلها على الأجهزة الأمنية وبدأت تلاقي بعض الاستحسان لدى رجل الشارع. ولجأت قوى وشخصيات سياسية متوجسة من التأثيرات المحتملة للانتخابات المبكرة على مكانتها ومكاسبها إلى إثارة عوائق قانونية أمام إجراء تلك الانتخابات. وقال رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إنّ مجلس النواب هو الوحيد الذي يمتلك صلاحية حلّ نفسه تمهيدا لإجراء انتخابات مبكّرة وإنّ رئيسي الجمهورية والوزراء لهما فقط الحق في طلب الحل من المجلس الذي قد يوافق وقد يرفض بناء على نتيجة تصويت يجريه للغرض. وبحسب مطّلعين على الشأن العراقي فإن دافع المالكي لإثارة هذه القضية محاولة التشبّث بمكسبه النيابي المتمثّل في كتلة دولة القانون التي يرأسها وتتشكّل من 26 نائبا. وليس مؤكّدا لدى المالكي أن يحصل مجددا على مقاعد في مجلس النواب بالنظر إلى تراجع مكانته في الحياة السياسية العراقية وسوء سمعته كأحد كبار المسؤولين عن تردّي أوضاع البلد وشيوع الفساد فيه.
مشاركة :