في وداع سعود الفيصل

  • 7/19/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا تتأخر الأوقات ولا تتقدم الأيام في وداع الراحلين الكبار، ويبقى حقهم قائمًا وذكرهم نافحًا بالخير والعرفان، يتجاوز حواجز الزمن إلى آفاق الخلود ويشكّل القدوة وتعطير الذاكرة وإلهام الأجيال. خدم خمسة ملوكٍ، وقاد معارك الدبلوماسية السعودية لأربعة عقودٍ، خدم دولته ووطنه وشعبه، وكان ملهمًا لأقرانه ونظرائه في دول الخليج والدول العربية، وكان عميد دبلوماسيي العالم، ذلك العالم الذي نعاه في لحظة رحيله، وكان متفانيًا مخلصًا في كل أعماله حتى آخر يومٍ في حياته. إنه الأمير الراحل سعود الفيصل رحمه الله، الذي كان وجه الدبلوماسية والسياسة السعودية، المعلن لمواقفها، المعرف بسياساتها التي يشارك في صنعها، والصقر السياسي في الدفاع عن مصالح دولته ووطنه منذ توليه منصبه وزيرًا للخارجية بعد وفاة والده الملك فيصل وصولاً لقوله في مجلس الشورى بعد ثلاثة أيامٍ من انطلاق «عاصفة الحزم»: «إننا لسنا دعاة حربٍ ولكن إذا قرعت طبولها فنحن جاهزون لها». لقد كانت أربعة عقودٍ مليئة بالنشاط والحيوية وتولي ملفاتٍ معقدة ومهماتٍ جلّى فكل الملفات الإقليمية والدولية منذ منتصف السبعينات وحتى اليوم شاهدة على فاعليته وتأثيره وحسن إدارته للأزمات إن تلك التي تتعلق ببلاده مباشرة أو بالدول العربية والإسلامية أو على المستوى الدولي، فكانت له أدوارٌ في مواقف بلاده من الحرب الدولية الباردة ووقوف السعودية مع دولة أفغانستان ضد المعسكر الشرقي، والملف الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية وصولاً لاتفاق الطائف، وحرب الخليج الأولى في الثمانينات وحرب الخليج الثانية في التسعينات، وملف الإرهاب بعد 2001 و2003، ومواجهة ما يسمى الربيع العربي في الجمهوريات العربية المنتفضة بعد 2011 وصولاً لإنقاذ مصر ودعم الشعب المصري والدولة المصرية في التخلص من سلطة الإخوان الراديكالية، وكذلك الموقف من الأزمة السورية ودعم الشعب السوري في مواجهة قاتليه من نظام الأسد وزبانيته، وأيضًا التصدي لمواجهة المشروع الإيراني في المنطقة في كل فترات التقارب والتباعد، وهذا غيض من فيض في تاريخٍ طويل ومشعٍ من الإنجازات والعمل الدؤوب والحكمة العالية. كم هم مخطئون أولئك الذين لا يفهمون التقاليد الملكية بشكلٍ عامٍ والتقاليد الملكية السعودية بشكلٍ خاصٍ، فهم يحسبون أنه بانتهاء عهد ملكٍ تنقلب الأحوال في عهد الملك الذي يخلفه وعلى هذا قامت حملة الإرجاف الإخوانية للطعن في الملك الراحل الكبير عبد الله بن عبد العزيز ملك الإنسانية وحسبان ذلك مما يمجد ملك الوفاء والحزم الملك سلمان بن عبد العزيز حتى أتتهم ضربة قصمت ظهور جهلة الإسلام السياسي وحقدته، وهم حسبوا من قبل أن خروج الأمير سعود من وزارة الخارجية هو نهاية لأدواره السياسية ولم يقرأوا أن الملك سلمان عينه وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء ومستشارًا ومبعوثًا خاصًا لخادم الحرمين الشريفين ومشرفًا على الشؤون الخارجية إلى لحظة رحيله المحزن. لقد قدّم الأمير سعود رحمه الله نموذجًا لرجل الدولة المخلص والمتفاني، وصانع القرار العاقل والواعي، ومن يقرأ نعي نظرائه وزراء الخارجية في دول الخليج العربي يعرف كم كان رجلاً استثنائيًا وحكيمًا فنعاه وزراء الخارجية حول العالم من الولايات المتحدة الأميركية إلى الدول الصديقة والدول الإسلامية والعربية والكثير من المؤسسات الدولية والقادة الدوليون في شتى المنظمات والمواقع التي كان له بها صلة ومعرفة وتأثير. نتذكر جميعًا موقفه بعد 2003 حين قال بأن دخول الولايات المتحدة الأميركية للعراق لم يكن سوى تقديم العراق على طبقٍ من ذهبٍ للجمهورية الإسلامية في إيران، وبعد ذلك قام رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي بالهجوم على المملكة العربية السعودية واتهامها بأنها وراء الصراع الطائفي بالعراق، وقد ردّ عليه سعود الفيصل من جدة أثناء انعقاد اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي بالقول إن «سياسات المالكي الطائفية هي سبب تدهور الوضع في العراق، إذ تعاملت حكومته بشكل سيئ مع بعض المناطق، واحتفاظ المالكي بكافة المناصب قوض قدرة الجيش العراقي»، وهو أكد أن اتهام المالكي للسعودية بدعم الإرهاب «مدعاة للسخرية». وقل مثل هذا في مواقفه وتصريحاته القوية والواضحة تجاه الأزمة السورية ودعم الشعب السوري، فقد رفع السوريون صوره في أكثر من مناسبة فرحًا بمواقف السعودية الداعمة لهم التي كان يعبر عنها الراحل الكبير، وهو من قبل كان على وعي كاملٍ بألاعيب حزب الله اللبناني ومغامرته غير محسوبة العواقب في 2006 وبعدها حتى تكشف حزب الله على حقيقته التي كانت حاضرة لدى الفيصل وغائبة عن كثيرٍ من المخدوعين أو الراغبين في الخديعة من الكتّاب والمثقفين العرب من شتى التيارات التي كانت تتساقط على نار المقاومة المزعومة آنذاك التي استيقظ بعضها بعد 2011 وبقي بعضها على غيه أو تكشف عن طابور إيراني خامس. وقبل ذلك وحين كان العالم العربي منقسمًا بين محوري الاعتدال الذي تقوده السعودية ومصر ودول الخليج وغيرها من الدول العربية وبين محور المقاومة الذي تقوده ويا للعجب إيران الفارسية ويشترك فيه العراق وسوريا وحزب الله في لبنان وحركة حماس وحركة الحوثي في اليمن، كان الفيصل هو لسان الاعتدال والمنافح عنه والمعبّر عنه خير تعبير في كل المحافل الإقليمية والدولية. بالإضافة لأدواره الخارجية فقد كان للفيصل أدوارٌ داخلية مهمة فقد رأس عددًا من المجالس المهمة وشارك في الكثير من اللجان الحكومية الفاعلة، التي كانت تتصدى للمشكلات وتسعى لحل الأزمات وتخلق الحلول وتشير على القيادة بأنجعها وأفضلها، وقد كان الفيصل مسموع الكلمة لدى ملوك السعودية الكبار الذين يأتمنونه على أعقد المشكلات وينصتون لرأيه وتوصياته ويثقون بوعيه وذكائه، وهو الذي لم يقصر يومًا في بذل النصيحة وتقديم المشورة والمشاركة في القرار. عودًا على بدءٍ، فكم كان مبهجًا حفل تدشين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لمشروع التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام والعناصر المرتبطة بها، وهو المشروع الذي بدأه الراحل الكبير الملك عبد الله بن عبد العزيز ويستمر فيه ويدعمه ويعتني به الملك سلمان، وكم كانت الكلمات التي ألقيت في الحفل طافحة بالثناء على الملك الراحل وما بذله من جهدٍ ودعمٍ لهذا المشروع الكبير، الذي بعده «قطعت جهيزة قول كل خطيب». أخيرًا، ففي مسيرة الاستقرار والاستمرار السعودي يترجل فارسٌ ليحل محله فارسٌ آخر، وينزل مسؤولٌ ليأخذ مكانه مسؤولٌ آخر، ويبقى التنافس مستمرًا على تأدية الواجب وخدمة الوطن والمواطن. وكل عامٍ وأنتم بخير.

مشاركة :