برحيل الأمير سعود الفيصل فقدت المملكة والعالم أحد دهاقِنة السياسة في الشرق الأوسط الذي وهب وقته وصحته في سبيل قضايا وطنه وأمته، ولم يفتّ التعب يوماً في عضده طوال خمسة عقود حتى رأى أن لكل فارس لحظة عليه أن يترجل فيها فكان ذلك "من أصعب الأمور وأثقلها"، كما قال خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز. السياسة مهنة لا تجلب المحبين بقدر ما تجلب العداوات والكارهين، لكن الأمير سعود الفيصل استثناء، فهو رجل السياسة العتيد وصاحب التجربة الثرية، جعل من الحكمة دليله وطريقه لقلوب وعقول نظرائه، الذين بقدر ما يحترمون تجربته وخدمته الطويلة لبلاده، بقدر ما يكشف قدرته على فرض احترامه وحبه عليهم، فكان محل تقدير في حياته ومماته ولا أدلّ على ذلك إلا برقيات التعازي التي توافدت من هنا وهناك ينعون فيها الفقيد ويعزّون المملكة في فقده ويذكرون محاسنه وصفاته، والأهم من ذلك أن يرثيه أبناء وطنه وقياداته الذين رأوا في رحيله أمراً بعث في شجونهم حزناً فأقبلوا يواسون ويعزّون الوطن ومواطنيه. خلال السنوات الخمس الماضية، والتي شهدت تحولات تاريخية في المنطقة المأزومة بشكل دائم، كان الأمير سعود الفيصل حاضراً رغم كل شيء يمارس عمله، وإدارة الشؤون السياسية لأجل المملكة ولأجل المنطقة، ولم يجعل التعب يأخذ مأخذه منه في هذه اللحظة التي تحتاج لكل خبرة وتجربة بعد أن رأينا كيف انجرفت الأوضاع في الشرق الأوسط إلى فوضى متوحشة، واستطاع الأمير سعود الفيصل في لحظة تاريخية بفضل حضوره وقوة حجته أن يجادل في قضايا المنطقة، ويقنع القيادات الغربية بوجوب اتساق مواقفها مع مصالح المنطقة ومواقف المملكة التي عرف عنها الاعتدال والسلم والتأني في التعاطي مع مجريات الأمور. إن الحديث بإيجاز عن شخصية بحجم الأمير سعود الفيصل وتأثيره في السياسة الدولية لا يمكن إيجازه واختزاله في بضعة أسطر أو كلمات، بل إن التجربة التي عاصر خلالها أربعة ملوك للدولة السعودية، والأحداث التي جرت خلال 40 عاماً الماضية مدة عمله، حري بنا إلقاء الضوء عليها من خلال تبني جهدٍ بحثي منهجي، نسبر من خلاله أغوار هذه التجربة، ونثري المكتبة العربية والدولية، ونلقي الضوء على رجل سياسة تاريخي وذاكرة وطن ترك أثراً لا يُمحى وسيرة لا تُنسى.
مشاركة :