أثارت دعوة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى تطبيق حكم الإعدام، على خلفية جريمة قتل هزت الرأي العام، مخاوف من أن تخطو تونس خطوات إلى الوراء بإقرار حكم الإعدام مجددا ضمن المواقف الشعبوية الرسمية التي تستهدف استرضاء الشارع. وخطر هذه الدعوة أنها تأتي من رئيس الجمهورية الذي هو قانونيا وأخلاقيا مؤتمن على الدستور وعلى الدولة المدنية التي تأسست منذ 1956 وتتعمق هويتها إلى الآن خاصة بعد انضمام تونس لمعاهدة دولية تمنع الإعدام مطلقا كونه سالبا لحق الحياة، وهو حق ما يجب أن يقع بأي شكل من الأشكال ضحية صراع سياسي أو شعبوية هادفة لكسب ود الشارع الذي تسيطر عليه الحماسة. كما لم ينجح التحديث القانوني في أن يغير من قناعات ومشاعر تقوم على الانتقام وممارسة عنف أشد لتحقيق رغبة التشفي أو الانتقام بالدم امتدادا لقيم قديمة مازالت ساكنة في لاوعي الناس بالرغم من تغير الأزمان. وفضلا عن كونها تتعارض مع القيم الكونية الحديثة، فإن عقوبة الإعدام ظلت طيلة التاريخ محكومة بردات الفعل والمزاجية والأخذ بالثأر، ما يجعلها مثار شكوك خاصة أنها تطبق على منتمين إلى فئات فقيرة أو في سياق تصفية حسابات سياسية. على القوى المدنية والحقوقية أن تقف مدافعة عن هذه الهوية بقطع النظر عن الشخص ووضعه السياسي، فالسكوت على دعوات الرئيس سعيد بخرق مقومات هذه الهوية وكان الرئيس سعيد في فترة سابقة قد أعاد الجدل إلى الواجهة بشأن أحكام الميراث من خلال الإعلان بمناسبة عيد المرأة عن رفضه الدعوات إلى المساواة في الميراث، مشددا على أن هذه المسألة محسومة بالقرآن في موقف أثار انتقادات شديدة لاختيار رئيس الجمهورية مناسبة وطنية ذات رمزية لإعلان مواقف صادمة في وقت كانت فيه قوى مدنية وحقوقية ونسوية تنتظر أن يتبنى مشروع المساواة في الميراث الذي كان تبناه قبله الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لكن لم يتم إقراره بسبب وجود معارضة من قوى إسلامية. وتقول أوساط حقوقية إن خطورة مواقف الرئيس سعيد تكمن في أنها ستفتح الباب أمام الإسلاميين ومجموعات محافظة أخرى لإعادة الدعوة إلى تطبيق الشريعة بصورتها التقليدية التي تعني في أذهان الكثيرين تطبيق أحكام الإعدام والرجم والتعزير وقطع الأرجل كما لو أن الدين جاء فقط للانتقام بدل تبني رؤية إسلامية تقوم على المقاصد وتبحث في الدين عن تحقيق قيم العدل والمساواة وجعل الإنسان محور الدين كونه جاء لإسعاده وجعل روح فرد واحد أهم ما في الدنيا، بدل فتاوى الانتقام والتشهير التي تلجأ إليها جماعات متشددة. ومن المفارق أن حركة مثل حركة النهضة قد تخلت عن الدعوة لتطبيق الشريعة وصارت تتجنب إثارة هذه القضية الحساسة حتى بين صفوفها ما أدى إلى خلافات داخلها وانسحابات، فيما يعيدها رئيس الجمهورية في سياق مسعاه لكسب ود جمهور تقليدي يؤمن بالعنف ويعتقد أن حسمه لا يتم إلا بعنف مضاد، وهو ما دعا رئيس حركة مشروع تونس محسن مرزوق إلى مطالبة الرئيس سعيد بالتصرف كرئيس دولة والخروج من وضع الحملة الانتخابية بعد عام كامل من فوزه في الانتخابات. إن دور الدولة يكمن في رعاية القيم وتطويرها بالقوانين وليس في الالتفاف عليها تحت أي مسوغ أو دافع، لأن رئيس الجمهورية، وهو يبحث عن تدعيم مركزه ومضاعفة شعبيته، قد يسن تقاليد جديدة تهز من صورة الدولة وتماسكها، وقد تعيد الجدل حول كل مقومات المشترك الوطني. ويمكن لفكرة إجراء استفتاء أو استطلاع رأي الشارع عن موقفه من الإعدام أو مسألة الميراث أن تفتح الباب أمام دعوات لتغيير قوانين مدونة الأسرة والعودة إلى مربع كانت تونس حسمته منذ 1957 وبات يقره الإسلاميون أنفسهم ويتبنونه قبل غيرهم. كما قد تمس هوجة الاستفتاءات والدعوات لتغيير القوانين من الحريات الشخصية والدينية، وخاصة حقوق النساء اللاتي يتم تحميلهن مسؤولية الاغتصاب والعنف وتبرير الجرائم ضدهن في حملة تكشف عن حالة كبيرة من الاغتراب في الشارع التونسي لم تشهدها البلاد منذ ظهور الجماعة الإسلامية نهاية السبعينات وحملة الدعوة لبقاء النساء بالمنزل وتحميلهن مسؤولية توسع البطالة، وكأن العمل مقصور على الرجال. وبالنتيجة، فإن مجاراة مطالب الشارع، التي تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي مرجعا لها، يمكن أن تسير في خط متناقض مع مسار الدولة، وقد تفتح الباب أمام نقاش وحدة هذه الدولة ذاتها في ظل نزعات مناطقية وعشائرية صاعدة بعد الثورة. إن السياسيين، وخاصة رموز الدولة، مطالبون بتغيير أدوات تفكيرهم والنظر إلى الدولة ليس فقط على أنها أجهزة حكم يمكن استلامها وتوظيفها لخدمة أنفسهم وأحزابهم، إنها أكبر من ذلك فهي هوية سياسية وثقافية وقيمية يحتاج أي مرشح لمنصب كبير أو صغير لأن يعلن تبنيه لها خلال حملته الانتخابية والتعهد بذلك علنا. خطورة مواقف الرئيس سعيد تكمن في أنها ستفتح الباب أمام الإسلاميين ومجموعات محافظة أخرى لإعادة الدعوة إلى تطبيق الشريعة بصورتها التقليدية كما أن على القوى المدنية والحقوقية أن تقف مدافعة عن هذه الهوية بقطع النظر عن الشخص ووضعه السياسي، فالسكوت على دعوات الرئيس سعيد بخرق مقومات هذه الهوية يعود في جانب منه إلى أن نقده قد يصب في خدمة حركة النهضة سياسيا، لكن ما لا يراه ممثلو هذه القوى أن خطاب قيس سعيد يقدم خدمة للنهضة وبقية المجموعات الإسلامية على المستوى الاستراتيجي بإعادة إحياء خطابها القديم وإعطائه مشروعية رسمية وشعبية كما لو أنه قائد شجاع من قادتها نجح في اختراق السياج المفروض من الدولة التي تتهم بالعلمانية ومعاداة الدين. معركة الدول الرئيسية، الآن، هي معركة اقتصادية واجتماعية، ويفترض من القيادات السياسية المؤثرة أن تقدم بدائلها ومشاريعها، وتستثمر علاقاتها في الداخل والخارج لإخراج البلاد من أزمتها الحادة، وبناء خطاب حقوقي ومدني وقيمي يشجع العالم على منح تونس التمويلات اللازمة للبدء بمعركة الخروج من ورطة عشر سنوات من الثورة التي أعادت الاقتصاد الوطني إلى نقطة الصفر. لكن الخطاب المنتكس الذي يسعى للالتفاف على القيم، لا يمكن أن يحقق هذه الغاية، وسيجد منظمات دولية تعنى بحقوق الإنسان وتدافع عن قضايا المرأة والمساواة تقف في وجهه وتضغط على الدول والصناديق المالية الدولية لمنع القروض والهبات والتسهيلات.
مشاركة :