أعاد رجل القانون الدستوري عياض بن عاشور الجدل حول مستقبل الفرز السياسي من خلال الدعوة إلى “حركة ثقافية وسياسية علمانية كبيرة” لمواجهة تمدد الإسلام السياسي في تونس، في الوقت الذي خرجت فيه التحالفات عن أي منطق وباتت أقرب إلى العبثية خاصة بعد تكوين جبهة برلمانية تضمّ إسلاميين وشعبويين مستقلين ونوابا محسوبين على التيار الدستوري الذي تجمع في 2013 تحت يافطة نداء تونس برئاسة الراحل الباجي قائد السبسي قبل أن تشقّه الخلافات الشخصية والصراعات على الزعامة وتحوله إلى مجموعات صغيرة. وحث ابن عاشور في مقال له بمجلة الليدرز (وترجمه موقع التونسيون) على “إنشاء حركة ثقافية وسياسية علمانية كبيرة بخيارات واضحة ومن دون تنازلات سياسية تتجاوز الأيديولوجيات الحزبية وتدافع عن مكاسب الاستقلال والإرث البورقيبي وذلك من أجل الدّفاع عن المجتمع التونسي والدّولة التونسية ضدّ غزو الأسلمة السياسيّة والدستوريّة”. قد يكون الحلم بجبهة بهذه المواصفات أمرا شبيها بالمعجزة إذا أعدنا تفكيك صورة القوى المحسوبة على العلمانية، أو التي يرجى منها أن تقود مهمة بناء الجبهة الجديدة لمواجهة تمدد الإسلاميين. ومن البداية نجد أن المعايير الفكرية والأيديولوجية قد اختفت من الصراع السياسي الحالي، وتركت مكانها لمعايير لزجة قد تضع هذا السياسي اليوم في خانة معاداة الإسلاميين، وغدا في خانة الأصدقاء، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى أن العلمانية، أو الراديكالية في مواجهة التيار الديني، ليست جزءا من مشروع فكري استراتيجي وإنما وسيلة للتموقع السياسي، وهو ما قد يستدعي المناورة بها تصعيدا أو تخفيفا لتحقيق المغانم. وللمفارقة، فإن الجهة الفكرية الرئيسية التي يفترض أن تزاحم الإسلاميين في الصراع على الرؤية المجتمعية، أي اليسار التونسي، قد تراجع إلى الخلف مع صدمة الثورة بالرغم من أنه كان يفترض أن يكون المستفيد الأول منها بسبب تركيبة أيديولوجية طامحة لتغيير جذري للواقع. ربما يمتلك اليسار أدبيات نوعية، وقيادات فكرية مالكة لأدوات التحليل والتفكيك، لكن منذ 2011 لم يخرج اليسار في تعبيراته السياسية العلنية ما يربك الإسلاميين أو يهز من صورتهم. وهناك إجماع على أن اليسار خطا الخطوة الخطأ ما بعد الثورة، إذ لم يعمل على تقديم صورة عنه كحركة تغيير جذرية خادمة للناس وقريبة منهم، بل وضع استراتيجيته بهدف وحيد هو مواجهة حركة النهضة التي سحبته إلى معركة التفاصيل وقادته إلى تحالفات غير محسوبة وضعته في خدمة أجندات مجموعات يفترض أن يكون في عداء جوهري معها. طبعا اليسار يسارات، وكل مجموعة تعتبر أنها حاملة للمقاربة الأكثر راديكالية وقربا من الناس، لكن ما طفا على السطح من قيادات ومجموعات وتكتلات، وخاصة من صراعات، زاد في إضعاف اليسار ودفعه إلى مناطق الظل، وهو ما بدا في تجربة “الجبهة الشعبية” التي خسرت في دورة برلمانية واحدة كل نوابها (16). كما أن براغماتية الإسلاميين نجحت في محو عناصر الاختلاف التقليدية التي كانت معيارا لمواجهتهم في السابق، فلم تجد النهضة في تبني مدونة الأسرة (مجلة الأحوال الشخصية) كأرضية مشتركة بالرغم من أنها تتناقض جوهريا مع التفسيرات الفقهية التقليدية التي يدافع عنها الإسلاميون عادة من نوع تعدد الزوجات وقضية التبني. النهضة تحرص على إظهار نفسها كحركة محافظة ذات روح إسلامية النهضة تحرص على إظهار نفسها كحركة محافظة ذات روح إسلامية ولم تعد حركة النهضة الإسلامية تعتقد بضرورة تطبيق الشريعة ومفاهيمها وأحكامها المثيرة للجدل، وتحرص على إظهار نفسها كحركة محافظة ذات روح إسلامية (مع التجرّد التام من أثواب الماضي الجدلي للجماعة الإسلامية، وحركة الاتجاه الإسلامي، والهوية الإخوانية الجامعة)، وهو ما يفرض حيرة على الخصوم في إمساك زوايا الجدل الفكري معها ويجبرهم على مناقشة أدائها البراغماتي المتلون، أي ربط النقاش بالموقف السياسي اليومي، أو بالارتباطات الخارجية مثل العلاقة مع قطر وتركيا، ومحاولة إثبات عناصر قارة يمكن اعتمادها في تصنيف الحركة. ومن المهمّ الإشارة إلى أن المجموعات الفكرية التي مكنتها الثورة من حرية التنظيم والرأي والإعلام وحق الظهور اليومي في اجتماعات مفتوحة من الناس لم تفلح في أن تظهر نفسها كخيار راديكالي جامع، إذا اختفت المحامل الثقافية والفكرية من الصراع، وما ظهر من كتب وروايات وأنشطة فنية فلم يكن وفق رؤية جماعية وإنما ضمن نزوع فردي مثل تجارب أدب السجون أو تقييمات فكرية لتجارب الماضي، وهي تقييمات يطغى عليها الحنين وإسقاطات الفشل أو الانكفاء الذاتي. فكيف يمكن أن نبني حركة ثقافية تقود إلى الفرز مثلما يحلم عياض بن عاشور؟ أعتقد أن الأمر يحتاج إلى رؤية مغايرة، ذلك أن التغيير الثقافي الحالم ربما يكون في الكتب والسير الذاتية، لكن على الأرض تحتاج البلاد إلى ما هو أهم، أي بناء تجربة حكم ثابتة والقطع مع النظام السياسي الهجين الذي يتّهم السيد ابن عاشور بأنه أحد مهندسيه، وقد دافع عنه في مقاله الأخير بالقول إن المشكلة ليست في النظام، ولكن في سبل تنفيذه. ربما نجح النظام البرلماني في منع هيمنة الإسلاميين على السلطة، لكنه بالمقابل عطّل كل شيء في البلاد، وجعل السلطة السياسية في ملعب التجاذبات وردات الفعل إلى درجة أنه ومنذ 2012 لم تنجح أي حكومة في تنفيذ أفكارها بسبب سيف الخلافات البرلمانية، ويمكن أن يستمر الحال إلى سنوات طويلة أخرى. إن تونس تحتاج إلى نظام سياسي سلس وغير معقد يمكّن من بناء تحالفات قادرة على الحكم حتى تتفرغ البلاد لمعالجة قضاياها الملحة وتقطع الطريق على سياسة وضع العصا في العجلة التي تجد مسوغات قوية لها الآن في ظل الخلاف بين رؤوس الحكم الثلاثة وتبلغ أقصى مأساويتها في ما يجري الآن بين رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس الجمهورية قيس سعيد، من صراع على التعيينات وعلى النفوذ في الوزارات. ستكون الأولوية الراهنة الآن هي بناء نموذج سياسي قادر على الحياة والاستمرار ويمكن البلاد من مواجهة أزماتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والصحية وإعادة الاشتغال على صورتها الخارجية التي شوّهها الصراع السياسي والحزبي. وهذه هي الأرضية الضرورية للتمايز التي تمكن من بناء معارضة قوية وتفرض على الأحزاب أن تطور أداءها وتخفف من الشعارات وارتهان البلاد لأجندات اللوبيات المحلية والخارجية، ويمكن لمناخ التعدد القائم على التنافس والوضوح أن يفتح الطريق أمام الاشتغال على التعدد الفكري والثقافي ويسمح ببناء حركة ثقافية للدفاع عن مكاسب الدولة الوطنية وعناصر التنوير التي ستتأسس في المستقبل، خاصة أن الاشتغال على الثقافي والفكري سيدفع الإسلاميين إما إلى تنازلات جذرية تجعل الأفكار القديمة مجرّد ذكرى، وإما إلى الانكماش التام والعودة إلى الجبّة الإخوانية التقليدية. والأمر لن يقف عند الإسلاميين إذ سيضطر الجميع (يساريين وقوميين وليبراليين) إلى تقديم التنازلات التي تقطع مع أمراض الأيديولوجيا، وسيطال العلمانية بأوجهها المختلفة ويخرجها من جلباب التعالي إلى بناء نموذج للتعدد خادم للناس. وبالنتيجة فإن الصراع الثقافي المتعدد الذي ينتصر لمشاريع التنوير ويرتبط بالمستقبل يكون نتيجة لتطوير واقع الناس وبناء مناخ اجتماعي إيجابي، وإلا كان إسقاطا غريبا لن يفضي إلا لإعادة إنتاج نماذج السلطوية والاستبداد. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :