القاهرة تعيش البهجة والقسوة والمثقفون غائبون عن عالمها | محمد عبدالهادي | صحيفة العرب

  • 8/14/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يصوّر فيلم “صندوق الدنيا” تناقضات الحياة في وسط القاهرة بين جمال الليل في شوارعها ووحشة قاطنيها وقسوتهم، بتتبّع أربع قصص لبشر عاديين تلاعبت بهم الحياة خلال ليلة واحدة فقط، ويتضمن قصفا عنيفا لمجتمع المثقفين، وتعاليهم على الطبقات الشعبية الكادحة. القاهرة – يتسم عالم وسط القاهرة بطبيعة خاصة مختلفة عن باقي أحياء العاصمة المصرية تتعدى كثيرا المباني التراثية، والمقاهي التي ظلت محتضنة للمثقفين والساسة ومقرات التجمعات والحركات اليسارية ومكاتب استقدام الممثلين والكومبارس (الريجيسير)، للبحث في وجوه البشر المتباينة التي تشي بمظاهر الفقراء والأغنياء، والنقد الجلي لانفصال النخبة الثقافية الهائمة في شوارعها عن باقي الطبقات المجتمعية. ويحاول فيلم “صندوق الدنيا”، الذي استؤنف عرضه بدور السينما بعد رفع الحظر بسبب كورونا، الاقتراب من عالم وسط القاهرة باقتطاع جزء زمني لا يتعدى ليلة واحدة من حياته الصاخبة التي لا تتوقف فيها الحركة، بتتبّع قصص مجموعة من البشر، لكل منهم واقع مختلف تماما، لكن يجمعهم الزمان والمكان، وقدر من الصدفة تجعل مصائرهم ومشكلاتهم تتقاطع، فيقدّمون المساعدة أو يتسبّبون في معاناة بعضهم. يعتمد العمل على سرد أربع قصص كل منها تصلح لأن تكون عملا مستقلا، مع فاصل بينها لشخصية المهرج عصفور (الفنان أحمد كمال) التي تقدّم خطابا مباشرا عن القيم والحب والعمل والشقاء، وغيرها من القيم التائهة في الحياة، بأسلوب شبه مسرحي أمام بشر مشكلتهم أنهم يبحثون عن السعادة أو المال، وتدفع بهم تلك الرغبة نحو الخطيئة. قسوة المدينة الحياة الباذخة والفقر المدقع متجاوران الحياة الباذخة والفقر المدقع متجاوران يستقي العمل اسمه من “صندوق الدنيا” العبوة المربعة المصنوعة من الخشب والرقائق المعدنية التي كان يحملها مغن مغمور في عالم ما قبل التلفاز والإنترنت يجوب به الشوارع لعرض مجموعة من الصور المتتالية، يصاحب كل صورة تعليق صوتي أو غنائي لقصة عن الأبطال الشعبيين. لم يجد الفيلم، الذي يمثل أول ظهور للمؤلف والمخرج عماد البهات منذ تجربة “بلياتشو” قبل 13 عاما، نجاحا في شباك التذاكر ربما لطبيعته الخاصة المعتمدة على البطولة الجماعية دون نجم شباك محبوب، ومع ميزانية منخفضة للغاية للدعاية والتسويق، لكنه يحمل تجربة سينمائية لم يفهمها الجمهور الشاب الذي يبحث عن الكوميديا أو جرعات من الحركة. في القصة الأولى، يدخل السائق القادم من الريف (الفنان باسم سمرة) ونجله علي (الفنان رابي سعد) وسط القاهرة بسيارة للنقل الجماعي محملة بنساء يرتدين الأسود في طريقهنّ لرحلة دينية إلى مولد سيدي الحسين، يتبارى الأب في تحذير صغيره من خطورة العاصمة التي لديها ألف باب يحتاج كل منها لوجه مختلف، وفي الوقت ذاته يدفع به لشراء علبة سجائر فيتوه الابن في دهاليز القاهرة المزدحمة. ويقدّم الفيلم من اللحظة الأولى عرضا للفرق بين حياة الريف والمدينة برحلة السائق المصاحبة للمقدّمة الغنائية لعبدالباسط حمودة وياسمين نيازي والممزوجة بتدخلات جنائزية من المطرب وائل الفشني، يصوّر خلالها القرى ببساطتها وخضرتها وهدوئها، وفي الوقت ذاته تجوّل البشر في وسط القاهرة بين تماثيل الزعماء السياسيين بالميادين، وعروض فرق الهواة في الشوارع، والسيارات المتقاطعة. يعيش السائق لحظات من القلق فعلي هو ما تبقّى له من الدنيا بعد وفاة زوجته، ولولا خوفه عليه من البقاء وحده لما أخذه في رحلة إلى العاصمة التي يعتبرها غولا يختطف الداخلين قبل أن يفاجأ بلص يقتحم سيارته هاربا من المطاردة ويطالبه بالانطلاق بها، فيرفض انتظارا لابنه فيتعرّض للطعن بسلاح أبيض ليفقد الابن ومصدر الرزق في آن واحد. ينتقل العمل إلى القصة الثانية عن عالم الممثلين المغمورين ومكاتب خدمات التمثيل بتمهيد بسيط لا يتعدى مقابلة المهرج للطفل التائه الذي يفشل في عبور الشوارع المليئة بالسيارات المسرعة، ومنها إلى حاتم صاحب مكتب استقدام الممثلين (الفنان عمرو القاضي)، الذي يعاشر ممثلة وعارضة سابقة ربى (الفنانة مروة الأزلي) التي تريد العودة إلى العمل، بعدما عجز زوجها الشاعر آدم (الفنان خالد الصاوي) ربيب مقاه وسط القاهرة عن الإنفاق على متطلبات حياتها. تتداخل شخصية المهرج مع القصة الرابعة عن الأخرس سيد مورجيحة (الفنان علاء مرسي) الذي يعشق فاطمة (الفنانة رانيا يوسف) الممرضة التي فاتها قطار الزواج ويعجز عن إخبارها بحبه، قبل أن يفاجأ بكم كبير من المرارة والألم، فحبيبته تقيم علاقة جنسية كاملة مع رب عملها الطبيب الفاشل في العلاقات ويحاول علاج مشكلته بإذلال النساء (الفنان صلاح عبدالله) عبر تحرير عقود زواج عرفية معهنّ، ثم تجريدهنّ منها بعد الحصول على شهوته. يتقاطع الأبطال مع بعضهم لثوان معدودة كأي شخصيات عادية في الحياة، فحاتم يقابل الصبي صدفة ويقدّم له النصح بطريقة العودة للشارع الرئيسي، وآدم يشاهده على الرصيف باكيا فيربّت على كتفيه ويتركه ماضيا، والمهرج يضمه معه في عروضه ليحرّك أصابع العرائس التي توحي تحركاتها بمصائر البشر. يحمل العمل نقدا لاذعا لقاطني وسط القاهرة على لسان أبطاله، فحاتم يرى أن مجتمع المثقفين لا يتعدى طبقة منتفخة ظاهريا تتشدّق باللغة والشعر والقيم، وهي جوفاء من داخلها لا تجد قوت يومها، ورغم بوهميته الشديدة وعلاقته المتعددة لم تمتلئ عيناه ويطارد روحية (الفنانة جيهان خليل) الريفية التي تقطن القاهرة منذ خمس سنوات لبيع الفاكهة من أجل إشراكها في الوسط الفني أملا في سهرة حمراء. قصف عنيف رانيا يوسف لعبت في فيلم «صندوق الدنيا» في نفس مساحة الأدوار المعتادة لها في الإغراء الجسدي رانيا يوسف لعبت في فيلم "صندوق الدنيا" في نفس مساحة الأدوار المعتادة لها في الإغراء الجسدي يقدّم الفيلم قصفا غير مباشر لبعض المثقفين الذين يتشدّقون بالحديث عن التسامح والرقي وإعلاء القانون عبر شخصية آدم الذي يناقش كتابا جديدا في سلسلة مؤلفاته التي تتجاوز السبعة، وينتقد في كلمته الواقع المؤلم للبشر وميلهم نحو العنف موجها نظره لشخص بين الحضور تبيّن بعدها أنه بائع سلاح أحضر له مسدسا لقتل زوجته رُبى بعدما تأكّد من خيانتها له، ولا يحل بينه ورغبته في الانتقام سوى المهرج الذي يحاول إثناءه بتفريغ الغضب من داخله عبر التنزّه بالشوارع والنظر في وجوه البشر. يبدو المهرج في العمل مثالا للسعادة، حتى وإن اعترى خطابه قدرا كبيرا من الافتعال التمثيلي، فهو الشخص الوحيد الذي يساعد الجميع رغم ظروفه الصعبة، تعلم من مهنته التعايش مع مصاعب الحياة والسخرية من مصائبها فتوقّفت عن الكيد له، واتجهت إلى وضع شباكها للآخرين الذين جروا وراء الخطيئة بصرف النظر عن مستوى تعليمهم أو ثقافتهم، فالطبيب منغمس في الخيانة والكاتب متعلق بفكرة القتل، والريجيسير لا يتوانى عن استقطاب المحتاجات إلى المال. ترك المخرج لكل ممثل الحرية في إظهار أفضل ما عنده، فجاء خالد الصاوي كالمعتاد متشربا لفكرة الزوج المخدوع المظلوم ومتقمصا لشخصية المثقف، وعلاء مرسي تحرّر من الشخصية الكوميدية التي لازمته طوال حياته ليعبّر بصدق عن صوفي أبكم مأزوم عاطفيا، وأجاد باسم سمرة دور الفلاح الساذج الخائف، ولعبت رانيا يوسف في نفس مساحة الأدوار المعتادة لها في الإغراء الجسدي. يظهر العمل استمرار تعلق كاتبه بعالم المهرجين الذي سبق أن قدّم حوله عملا كاملا بعنوان “بلياتشو”، ربما لاقتناعه بأنها مهنة تعبّر عن تناقضات البشر، وقدرة البعض على السعادة في أحلك الظروف، وتوزيع الأمل في أشدّ لحظات اليأس، وتخفيف آلام البشر برسم الابتسامة وليس المتاجرة بآلامهم أو الاكتفاء بعرضها. ورغم طول زمن الفيلم، لساعتين، إلا أنه لم يتعمّق في الشخصيات المقدّمة التي جاءت خالية من التفاصيل التي تظهر كيفية وصولها لواقعها المأزوم، تاركا تساؤلات من نوعية، ما الذي يجبر السائق الذي يخشى القاهرة على القدوم إليها؟ وما الذي يدفع بكاتب أصدر سبعة أعمال إلى الفقر؟ وكيف يرتبط بممثلة أصغر منه سنا في ظل اختلاف عالمهما؟ وما الذي أتى ببائعة الخضار الريفية إلى المدينة؟ وما الفرص التي كانت تسعى لتحقيقها من الهجرة؟ ويقدّم فيلم “صندوق الدنيا” القاهرة كمدينة موحشة قاسية على سكانها في جانب، وساحرة بعماراتها وفنها وتنوعها البشري والفكري في جانب آخر، ويصوّر الحياة الباذخة والفقر المدقع متلاصقين، ويجسّد ملامح البشر الطيبة في حارات ضيقة ونظرات الأشرار في الشوارع، ويجعل الفرح والحزن متعانقين يسيران معا في رحلة واحدة، ففي النهاية يعيش الفيلم وأبطاله بوسط القاهرة وهي منطقة تستحق أن تكون صندوقا للدنيا.

مشاركة :