إن الذات البشرية مثقلة بالتناقضات التي تتجاور بطريقة عجيبة في داخل كل فرد، ولو بتفاوت. قد نجد الكراهية والشر يتجاوران مع الطيبة والحب في شخص واحد، متناقضات تلتقي ما بينها لتصنع فرادة الإنسان، ولتلغي فكرة الشر المطلق أو الخير المطلق أو بالأحرى عدم القدرة على التغيير. ولعل أشد ما ينحت التناقض بشكل مرضي هو الصراعات والعنف والحروب، حيث يخرج من الذات أفضع ما فيها، ولكن يبقى الجوهر الداخلي ولو كنقطة صغيرة قادرة على إحداث الفرق. "إن لم يكن حبّا.. فماذا يمكن أن يكون؟” لا تتوقّع في هذه الدراما القاسية والتراجيديا المريرة أن تخرج من وسطها بزهرة حب، كما تخرج زهرة يانعة من أرض قاحلة. الدراما القاسية هذه تبدأ من سيرة ضابط جراح في الجيش الأميركي إبّان الحرب الأهلية، وكما في جميع الحروب هنالك الأزمة العصافة التي تعرف بما بعد الصدمة حيث تتغلغل ذكريات الحرب القاسية إلى وعي ولا وعي من شارك فيها وخرج منها. بل إن هنالك ما هو أبعد من ذلك بتحولها إلى متلازمة تؤدي بصاحبها إلى أعراض فصامية أو إلى الجنون وصولا إلى الانتحار، وتلك هي حقيقة علمية لا خلاف عليها والدليل هو المنتحرون من المشاركين في حربي الخليج. إذا، الحرب واحدة، ولو كان ضحياها مختلفين. ملاحقة شبح بالطبع لن نشاهد في فيلم “البروفيسور والمجنون” الكثير من مشاهد تلك الحرب الأهلية الأميركية التي شارك فيها الطبيب الجراح وليام ماينور (الممثل شين بين) لكنك تستطيع التوصل إلى آثارها، إلى صرخات الجنود الجرحى، إلى وجوه وعيون القتلى الجاحظة، إلى شضاياها ونيرانها وفجيعتها. وها هو ماينور ملاحَق بأشباحها، يشهر مسدّسه لمطاردة الشبح في مدينته الأميركية في مشاهد مصنوعة بعناية حتى يعثر على الشبح الذي يقول وليام إنه يطارده، ولهذا يجدها فرصة سانحة للاقتصاص منه وبالفعل يصيبه بالرصاصة الأولى بينما الرجل يستغيث بزوجته لتفتح له باب المنزل لعلّ في ذلك إنقاذا له، لكنّه سوف يتلقى الرصاصة الثانية المميتة ليلفظ أنفاسه بين يدي زوجته وأمام أنظار أولاده الخمسة، وعندها سوف يصرخ الضابط الطبيب الجراح ماينور، إنني آسف فلقد أطلقت الرصاص على الشخص الخطأ. ماينور في قفص الاتهام في قاعة المحكمة وهو هارب من الولايات المتحدة وذلك في العام 1872 طالبا اللجوء في بريطانيا، ولكنه الآن ينتظر عقابه فيكون قرار المحكمة لم يثبت أنه قاتل عمدا وإنما هو مجنون ويجب أن يذهب إلى سجن المجرمين المصابين بأمراض عقلية ونفسية. خطّان متوازيان تجمعهما كلمة الضابط الطبيب المجنون وصاحبه البروفيسور الضابط الطبيب المجنون وصاحبه البروفيسور من هنا سوف تبدأ هذه الدراما القائمة التي تم إعدادها عن كتاب حمل نفس هذا الاسم للمؤلف سيمون وينتشيستر مستندا إلى وقائع حقيقية وجوانب من السيرة الذاتية للضابط الطبيب المجنون وصاحبه البروفيسور. مخرج الفيلم هو فارهاد سافينيا وهو نفسه بي بي شيمران كما ظهر في الفيلم وهو مخرج أميركي من أصول إيرانية، ولم يظهر اسمه الحقيقي فارهاد بسبب نزاع سبق عرض الفيلم بين ميل جيبسون والشركة المنتجة، ترتب عليه قرار باعتماد اسم شيمران. بنى المخرج وفريقه من المشاركين في كتابة السيناريو السرد الفيلمي على خطّين متوازيين ما يلبثان أن يلتقيان، ولكن أيّما لقاء. ففي الوقت الذي يصدر فيه الحكم على ماينور بالسجن في مصحة للمجرمين المصابين بعلل نفسية وعقلية، يكون على الجهة الأخرى جيمس موري (الممثل ميل جيبسون) بلحيته وشاربه الكث واقفا في رحاب عمالقة جامعة أوكسفورد بعدما تم ترشيحه للقيام بمهمة عجز عنها العشرات من العلماء والباحثين من خيرة العاملين بالجامعة ألا وهي إصدار أول وأكبر قاموس متخصص باللغة الإنجليزية وتاريخها ومصطلحاتها، وهو القاموس المتعارف عليه حتى يومنا هذا معجم أوكسفورد. في مشهد مصنوع بعناية فائقة وشخصيات منتقاة من تلك الطبقة الرفيعة من نخبة المجتمع الإنجليزي وكبار علمائه، يتحدث موري عن نفسه، وهو الذي لم يكمل تعليمه الجامعي بسبب كونه من عائلة فقيرة اضطر للنزول إلى العمل في سن مبكرة، ولكن ذلك الرجل الواثق من نفسه كان عنده ولع باللغات وإذا به يفحمهم ويدهشهم في مرافعة مؤثرة، بأنه يتقن لغات عدة بطلاقة من الفرنسية إلى الألمانية إلى الهولندية إلى البرتغالية فالإسبانية والروسية وصولا إلى العبرية والسريانية وحتى العربية. عندها يسند مجلس حكماء جامعة أوكسفورد المهمة له لتأليف القاموس في زمن يمتد ما بين 5 و7 سنوات، ولأن المساعدين العاملين معه محدودو العدد يلجأ إلى مخاطبة كل مهتم باللغة الإنجليزية من المتحدّثين بها إلى الانضمام إلى المشروع الطموح، لتقع تلك الرسالة بالصدفة بين يدي الطبيب الجراح السجين فيقرر الانضمام إلى فريق القاموس، ويبدأ بتزويد البروفيسور بمئات الاشتقاقات اللغوية التي تذهل البروفيسور وفريقه وتوسّع فعليا في إصدار الجزء الأول من المعجم. لم يكن ماينور بذلك الانهماك بالرسم والبحث اللغوي ساكنا وراضيا، بل إن صراعه مع نفسه لم يهدأ قط، وتلك هي النقطة الجوهرية في بناء شخصية ماينور العصابية الانفعالية، وتكون أول خطوة للتطهير والتسامح مع الذات هي الطلب إلى أرملة القتيل الذي أجهز عليه أن تتسلم راتبه التقاعدي لكي تعيش منه إلا أن الزوجة ترفض ذلك وفاء لذكرى زوجها، لكنّها ما تلبث أن تستسلم للأمر الواقع عاجزة وتتقبل المال ثم تقرر مقابلة قاتل زوجها للمرة الأولى في سجنه. الفيلم محمّل بكثافة أسلوبية عالية وتم نحت عناصر فنية وإبداعية فيه بشكل متقن وفي مقدمتها الحوار الفيلم محمّل بكثافة أسلوبية عالية وتم نحت عناصر فنية وإبداعية فيه بشكل متقن وفي مقدمتها الحوار يتم رسم ذلك المشهد الأول للقاء بعناية فائقة ومنه تندلع شرارة الشجن والجرح الإنساني العميق، ماينور الذي في ذهنها هو قاتل متجبّر وهو نفسه صاخب وعنيف وإذا به يتصاغر أمامها ويشعر بالذل، مطأطأ الرأس، خافضا البصر، عاجزا عن الكلام ثم لتتكرر زيارة إيليزا (الممثلة ناتالي دورمر) ثم لتهديه كتابا ثم ليكتشف أنها لا تقرأ أصلا ثم ليخبرها بأنه بصدد مقايضة مريعة بعدما أزهق روحا واضعا حياة أخرى بين يديها، هي حياته وهي كل ما لديه. رسم وحب وكلمات هي لحظة عاصفة تكشف عن جرح إنساني عميق، إذ كيف للقاتل أن يصبح معذبا مقتول الروح، خيالات الحرب وصور القتلى لا تفارقه ولا تتحمّلها روحه، ثم تضاف لها محنة تلك المرأة وأطفالها، صرخات تتلو صرخات تكاد تسمعها، فيما ماينور يدور في زنزانته المعتمة وهو يرسم نصف وجهها هاربا أو محاولا الهرب من آثامه. ولعل الملفت للنظر هنا، أن كلما استغرق ماينور مع عالم الكلمات والبحث وكلّما شعر بوجود إيليزا نابضا، صار يعبّر بطريقة أخرى، يقول: “عندما أقرأ لا أشعر أن شخصا يلاحقني عندما أقرأ أكون أنا من يطارِد أرجوك أتوسل إليك أن تنظمي إلى المطاردة” هاهو وقد انتعشت آماله في الحياة، الزنزانة وقد صارت غابة من القطع الورقية التي تحمل معلومات لقاموس أوكسفورد التي تتراكم على طاولة البروفيسور، طبيبه المعالج يقول إنه يتطور، ووضعه النفسي والعقلي يتحسن مع استمرار ذلك الحوار مع إيليزا ورضاها عنه حتى يتوّج ذلك بجلبها أولادها لزيارته عندما يتلقى الصفعة من الابنة الكبرى كلير، صفعة مصحوبة بكلمة قاتل، سوف توقظ كل عذاباته من جديد وتعيدها سيرتها الأولى. لا شك أن الممثل البارع شين بين هنا في واحد من أرفع أدواره على الإطلاق بل هو سيد هذا الفيلم بلا منازع، الشخصية التي تصارع نفسها والأشباح وتقاوم حبّا قلب الموازين. تكتب له وهي تتهجّى الحروف “إن لم يكن حبّا.. فماذا يمكن أن يكون؟”. هي قصاصة ورق عليه الاحتفاظ بها حتى ذهابها ثم يمكنه أن يفتحها ويقرأها. ثم ليصرح في حضن صديقه البروفيسور، إن قلبي مريض، ويعيد ما قالته إيليزا، أتذكر أنني كنت بأمان وساكنة وأتذكر أنني كنت أعرف من أنا، ثم استيقظت فجأة وكان كل هذا قد زال. لقد كرهتك لوقت طويل لكنني الآن صرت أعرف من أنت وأعرف أن ما حصل قد أصابك أنت أيضا إنني أستطيع …. ولكن بسببك أنت لقد أتيت أول مرة لكي أكرهك فيجيبها، أرجوك استمري بكرهي، يا ليتك تستمرين بكرهي. تنقلب الدراما الفيلمية في فورة صراع ذاتي مرير يتراجع فيه ماينور ويبقي زنزانته التي كانت تزدحم باللوحات والكتب إلى فراغ حزين بينما في الجهة الأخرى يكون زميله البروفيسور قد تعرض إلى حملة شرسة باتهامه بأنه أنجز القاموس بالتعاون مع قاتل ومجرم وهو الطبيب الجراح الأميركي ماينور في محاكمة لا يستسلم فيها البروفيسور بسهولة ويدافع عن زميله بضراوة حتى ينتصر له وينتزع اعترافا بفضله في إنجاز القاموس. لا شك أن هذا الفيلم محمّل بكثافة أسلوبية عالية وتم نحت عناصر فنية وإبداعية فيه بشكل متقن وفي مقدمتها الحوار الكثيف والعميق والمؤثر والمحمّل بالكثير من المشاعر والقيم الإنسانية وبخاصة حوار طبقة المفكرين والعلماء من جامعة أوكسفورد أو الحوار بين ماينور والبروفيسور. علاقة إنسانية الممثل البارع شين بين هنا في واحد من أرفع أدواره على الإطلاق بل هو سيد هذا الفيلم بلا منازع، الشخصية التي تصارع نفسها والأشباح وتقاوم حبّا قلب الموازين الممثل البارع شين بين هنا في واحد من أرفع أدواره على الإطلاق بل هو سيد هذا الفيلم بلا منازع، الشخصية التي تصارع نفسها والأشباح وتقاوم حبّا قلب الموازين هنالك في المقابل تعبيرية عالية لجهة نسج العلاقة الإنسانية المتجرّدة وفيه الكثير من محاكمة الذات وفيه حس إنساني عميق ومؤثر، إذ تكفي تلك الوقفة القاسية المتجرّدة من الأنانية التي وقفها ماينور قائلا، لقد انتزعتها منه مرّتين، مرّة عندما قتلته ومرّة أخرى عندما أحبّتني، لكنّه سوف يحرّم على نفسه هذا الحب لكي لا يقتل الضحية مرتين عندما يقدم على قطع عضوه الذكري وهو في الزنزانة. على صعيد البناء المكاني هنالك بناء متميز للنسيج المكاني وارتباطه بالشخصية، فطبيعة أحداث الفيلم تطلبت بكل تأكيد التصوير في أماكن حقيقية ومنها أجواء جامعة أوكسفورد ومنها أيضا الشوارع القديمة لما يفترض أنه لندن لكننا في الواقع في إيرلندا حيث تم تصوير الفيلم، وفي كل الأحوال تم توظيف عنصر الصورة وعمقها ودلالاتها والتصوير والمونتاج في تقديم تنوع بصري متميز مع الحافظ على إحساس بالحياة الكلاسيكية التي طبعت تلك الحقبة. سوف نشاهد شين بين في عدة مشاهد مؤثرة قبل أن يتم الحكم عليه ويلقى في زنزانته المعتمة، وهي مشاهد المطاردة قبيل ارتكاب جريمة القتل ثم مشاهد نزوله إلى القاع باتجاه المحاكمة، وهي مشاهد تم تصويرها بطبقة إضائية واطئة وإعتام ملحوظ مع عَرَج الطبيب الجراح وحالته المتخبطة ثم تضاف إلى ذلك أوقات الحياة الجديدة بدقائقها المعدودة التي جمعته مع إيليزا وكانت غالبا حديقة السجن ووسط الطبيعة.
مشاركة :