فيلم "هارييت" سيرة ذاتية عن العبيد العابرين إلى الحرية | طاهر علوان | صحيفة العرب

  • 6/21/2020
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

صورة الإنسان وهو ينتقل من العبودية إلى فضاء الحرية هي صورة مثالية ظلت تلخص واقع مجتمعات غارقة في التمييز والعنصرية. واليوم أكثر من أي وقت مضى تتم مراجعة ذلك التاريخ المخزي للإذلال العنصري والتمييز العرقي في أميركا كما يتم تسليط الضوء على رموز ليسوا عابرين في تاريخ الإنسانية ومنهم هارييت توبمان من الذين عاشوا فصول تلك التراجيديا الكارثية وبقوا شهودا عليها. يقدم فيلم “هارييت توبمان” للمخرجة كاسي ليمونز الفصول الأكثر إثارة في تاريخ العبودية الراسخة لقرون في العقل الجمعي للمجتمع الأميركي وهو التاريخ الحافل بالضحايا والدماء والأحزان. في مقاربة تجمع ما بين الدراما والسيرة الذاتية والتاريخ تغوص المخرجة عميقا في واقع المجتمع الأميركي القائم على الطبقات ونظام الرق وذلك في القرن التاسع عشر. وكأن ذلك الواقع الكابوسي بمثابة قدر لا سبيل سوى التسليم به لاسيما وأنه مدعوم بتشريعات وقوانين صارمة وتطبيق لا يعرف الرحمة على الخارجين عليه. صلوات السود مشهد مألوف أن تسير أفواج السود وهم مقرّنون بالأصفاد في أيديهم وأرجلهم ورقابهم ويتم بيعهم والمتاجرة بهم بين مزارع البورجوازيين البيض الأميركان، وحيث يصبح امتلاك أكبر عدد من العبيد السود دلالة على مكانة اجتماعية رفيعة تستحق التباهي. تختار المخرجة نموذجا صارخا من تاريخ العبودية الأميركية هو جانب من سيرة هارييت الفتاة التي وجدت نفسها وهي في سن المراهقة تتشبث بأمل هش في أن تتحرر من العبودية، وقد خدمتها فرصة وعد مكتوب أعطاه جدّ مالكها الحالي من أسرة بورديس بعقتها بعد أن تبلغ الأم سن الخامسة والأربعين. في مشهد عاصف سوف يؤسس لاحقا للسرد الفيلمي والتصعيد الدرامي تنتظر هارييت قرارا مصيريا من سيّدها، لكنها لم تتوقّع قط أن يمزّق ذلك الميثاق ويصرخ في وجوه الجميع، إنّكم عبيد وسوف تبقون كذلك إلى الأبد وملكا لي. شخصية هارييت تبنى على أنها ملهمة للآخرين، تلك هي الفكرة التي يتم رسمها والمرتبطة بسلميتها حد القدسية شعور هارييت (الممثلة سينثيا إيريفو) بمرارة القهر بعد بيع شقيقتيها وإذلال والديها وضربها وهي صغيرة على رأسها من قبل مالكها مما أدى إلى إصابتها بعارض عصبي يشبه الصرع، كل ذلك يدعو هارييت إلى التماس الإرادة الإلهية للتخلص من ظلم السيد بورديس وحيث تلاحقها سخرية ابنه بأن الله لا يصغي لصلوات السود. لفظ السيد بورديس أنفاسه فتحلّ اللعنة على هارييت بأنها وجه شؤم وسوء، ولهذا يقرر الابن غيدوين (الممثل جو ألوين) بيع هارييت فتقرر هي الهروب، لكنّها لن تجد من يساندها من أسرتها لترحل وحيدة. في مشهد الملاحقة على ظهور الخيل واستخدام الكلاب البوليسية تجد هارييت نفسها محاصرة على جسر ومن ورائها ومن أمامها فوهات بنادق، ويحاول بروديس الابن استمالتها لثنيها عن الهرب، لكنه لم يتوقع قطّ أنها سوف ترمي بنفسها في المياه الجارية لنهر عميق، وبذلك تنتهي قصة هارييت بالنسبة إلى مالكها. تشاء الأقدار أن تجرف المياه هارييت وتصل حيّة إلى ضفة في أرض قفراء ومن هناك تبدأ رحلتها الجديدة إلى المجهول. كل تلك الرحلة المحفوفة بالخطر وحيث تلاحق السلطات بلا هوادة العبيد الهاربين في كل مكان تصنع مشهدا جمعيا للصراع لا يجد فيه أحد متّسعا ليعيش حياته الطبيعية. سيرة هارييت الفتاة التي وجدت نفسها وهي في سن المراهقة تتشبث بأمل هش في أن تتحرر من العبودية سيرة هارييت الفتاة التي وجدت نفسها وهي في سن المراهقة تتشبث بأمل هش في أن تتحرر من العبودية أسرة بورديس ترث الديون الثقيلة لكنها ديون لا علاقة لها بالعبيد ولا ذنب للعبيد فيها، لكنها تحال إلى العبيد وبما في ذلك بيع عدد من العبيد للتخلص من وطأة الإفلاس، ومن ثم يحضر العبيد في الحقول ينتجون من أجل غنى وترف سادتهم، وحتى القس يلقن العبيد فكرة مشينة وهي أن رضا الرب من رضا من يمتلك العبد وبذلك تغلغلت العبودية الدينية لتكمل الطوق. تشكل الانتقالات المكانية عنصرا بالغ الأهمية في هذا الفيلم بسبب كثرتها وتنوّعها وهو ما استثمرته المخرجة بشكل مميز من خلال التصوير في الحقول والأماكن المفتوحة، وخلال ذلك تتغير طبيعة المكان المرتبط بطبيعة الحياة والمباني في القرن التاسع عشر، ومن ذلك أن المخرجة تشير كتابة إلى تلك الانتقلات عندما تقع وخاصة لدى انتقال هارييت إلى ولاية فيلاديليفيا حيث تعثر على جمعية مهمتها استقبال أولئك العبيد الهاربين. تتأسس بذلك الانتقال المكاني إلى العالم الجديد مساحة أوسع لحلم الحرية وبذلك تم تكريس فكرة الرغبة في الحياة بوصفها فطرة إنسانية لكي تتحول إلى دافع للمغامرة، وهي المغامرة التي لن تتوقف هارييت عن خوضها مهما خاضت من صعاب ومجازفات. تتكامل من خلال هارييت علاقة اجتماعية تضم كلا من ماري (الممثلة جالين موناي) وويليام (الممثل ليسلي أودوم) وهما اللذان سوف يسندان مهمتها ويدافعان عنها وبذلك تم تأسيس حاضنة جديدة من أجل تصعيد درامي جديد وكأن أحداث الفيلم قد تسارع إيقاعها مع ذلك التحوّل الجديد. الحقيقة التاريخية ليس للعبيد من سبيل سوى التماس الحرية أو الموت في سبيلها ليس للعبيد من سبيل سوى التماس الحرية أو الموت في سبيلها على هارييت خوض المغامرة إلى آخرها غير آبهة بالمخاطر، فهي تعود عبر الغابات متنكرة وحيث أنها المطلوب الأول في بلدتها وهاربة من مالكها، ومع ذلك عليها إنقاذ أعداد أخرى من إخوتها وأصحابها، وتهريبهم إلى حيث يجدون الحرية التي ينتظرونها. على أن الحفاظ على مصداقية الحقيقة التاريخية لسيرة هارييت لم يمنع بث العديد من الحبكات الثانوية، ومنها مثلا اكتشاف أن حبيبها الذي أخلصت له وعادت من أجله متحمّلة المخاطرات والمصاعب قد نسيها وتزوّج من امرأة أخرى، وهو ما سوف يشكل صدمة بالنسبة إليها، وأما على الجانب الآخر وفي أوساط البيض فما يزال غيدوين يمارس فعل الابتزاز منتزعا ابني شقيقة هارييت لكي يكونا طعما يتم من خلاله جلب هارييت لغرض القصاص منها. ولأن حوادث اختفاء المزارعين العبيد تتكرّر وعلى الرغم من الحراسات المشددة للمالكين يصبح من يقوم بتهريب العبيد مجرد كائن شبح ومن الصعب الإطاحة به ويطلقون عليه اسم موسى، وتنتشر إعلانات في كل مكان بوضع جائزة لمن يقبض عليه، لكن المفارقة سوف تظهر عندما يكتشف الملكون البورجوازيون البيض أن موسى في حقيقته هو هارييت. هارييت توبمان ولدت في العام 1822 وتوفيت في العام 1913 وأطلق عليها اسم محرّرة العبيد. قامت بتحرير مئات العبيد ومنحهم حريّتهم جابهت السلطات الأميركية وجازفت بحياتها من أجل قضية حرية السود. استبقت الحرب الأهلية بجعل مجتمع السود مهيئا للدفاع عن وجوده ومصيره. كان شعارها الدائم إما الموت وإما الحرية. على أن تفشي ظاهرة هروب العبيد سوف يكون مفتاحا سرديا مناسبا يتم من خلاله استعراض وقائع يومية لمجتمع محتقن ومأزوم، يعيش صراعا مع نفسه ويؤجج نزعة الكراهية ويمجد الانتقام، وهو ما سوف نشهده مع الدعوات المتصاعدة إلى شنّ حرب لا هوادة فيها ضد العبيد الهاربين، وهو ما يتم سنّه فعلا ويكون قانونا يدفع بالنتيجة إلى تحوّل السود إلى هدف سائغ وعرضة للقتل المجاني. لعلّ تصعيد فكرة الصراع وتحوّلها إلى قدر يحيط بالشخصيات سوف يكون كافيا لأن يجعل الطرف الآخر في مواجهة مصيرية، وهو ما يدفع هارييت إلى تأسيس ما يشبه الميليشيا لمواجهة استهتار البيض وقوانينهم الجائرة. الموت أو الحرية ولا طريق ثالثا، ذلك الذي اختطته هارييت لنفسها وحتى في أحلك المواقف وأصعبها، لن تتخلى هي عن سلميتها على خلاف خصومها، ومن ذلك المشهد الذي ترى فيه مالكها السابق غيدوين وهو يركل ماري ويعنّفها، وكان بإمكانها الاقتصاص منه، ولكنها لم تفعل، ثم وهي تحصل على استسلام غيدوين وهي مسلّحة وهو أعزل، ومع ذلك فإنها لن تجهز عليه بالقتل وإنما تتركه ليواجه مصيره بشكل ما. تبنى شخصية هارييت على أنها ملهمة للآخرين، تلك هي الفكرة التي يتم رسمها والمرتبطة بسلميتها، فضلا عن إضفاء قدسية وكرامة لها في إيمانها الروحي العميق والاستجابة لدعائها للرب من أجل إنقاذ نفسها وبني جلدتها، ومن ذلك أيضا المشهد المؤثر لمحاولة عبورها النهر وخوف الآخرين من النزول خشية الغرق لتتحول دعواتها وصلواتها إلى حقيقة تنجيها من الغرق وتدفع الآخرين إلى التصديق بها والعبور إلى عالم الحرية. في إطار فكرة الصراع المتصاعد بين قوّتي السود والبيض يتم تأسيس قاعدة اجتماعية موضوعية تجعل من فكرة الصراع هذه مجرد حتمية لا بد من الوصول بها بالتدريج إلى التهديد والعقاب ثم المواجهة والصراع والانتهاء إلى الحرب الأهلية بوصفها نقطة مفصلية فرضها استبداد السود والتشريعات والقوانين التي تقوّي شوكتهم من أجل المحافظة على نظام فريد ومشين للعبودية لا يمكن تغيير قوانينه. وإذا تحدثنا عن شخصية المرأة الملهمة فإننا في موازاة ذلك نتحدث عن شخصية درامية مميزة، قادرة على أن تكبح جماح عاطفتها الشخصية وأحلامها الخاصة من أجل إنقاذ الآخرين، وفكرة الإنقاذ هنا تتحول إلى دافع فكري ومعنوي يتم التأسيس عليه سرديا في هذا الفيلم. والأمر لا يتعلق بتحرير هارييت المئات من العبيد وتمكنها من ردع خصومها بلا هوادة وصولا إلى تهريب العبيد إلى كندا للخلاص من الاضطهاد وإنما يتسع إلى قضية وجدانية وإنسانية ترتبط بكفاح شعب حرّ دفع الكثير من أجل حريته، وهو ما أرادت هارييت إيصاله أن الفرد العاجز المستعبد بإمكانه أن يصنع معجزة تمرّده وثورته وتأسيس فكرة الحلم الثوري والإنساني التي سارت عليها انتفاضات السود ولا تزال، أن عندي حلما وأن حياتنا ثمينة ومحترمة كحال حياة سائر البشر. حظي الفيلم باهتمام نقدي ملحوظ وكتبت عنه العديد من الصحف الأميركية والبريطانية ونال العديد من الجوائز وتم ترشيحه لنيل جائزة الأوسكار في التمثيل لهذا العام. ShareWhatsAppTwitterFacebook

مشاركة :