لوحات محمد ناجي عن الحبشة أسّست لتضامن يتلاشى الآن | مصطفى عبيد | صحيفة العرب

  • 8/24/2020
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في الوقت الذي تدور فيه مفاوضات متعثرة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة ونهر النيل، يسترجع مصريون ذكريات قديمة ربطت بين البلدين، أكّدت عمق العلاقة بينهما، ويترحمون على ما وصلت إليه الآن، حيث يتسابق مواطنون من كلا الجانبين في تحميل الدولة الأخرى مسؤولية الإخفاق في التوصل إلى اتفاق حول المياه، بينما كانت العلاقات على درجة كبيرة من المتانة، وقد عكسها الفنان المصري الراحل محمد ناجي في عدد من رسوماته. الكثيرون يعتبرون أن الفن أقوى وأبقى من كل شيء. بصمات الإبداع لا تموت، وتتجاوز الأمكنة والأزمنة، وتُغالب تحوّلات وتغيّرات البشر، وتعلو كل الآفاق. ولا يولد الفن بمراسيم حكومية، أو ينبت بقرارات فوقية، ولا يُصنع بخطط مسبقة، إنما هو جمال رباني يسيح في فضاءات الكون، فيحُط في لحن بديع، أو يسكن تمثالا فاتنا، وربما يتسرّب إلى قصيدة شعر، أو لوحة رسم ليصنع بذلك كلمة الخلود. من هنا كان يرى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن الفن دوما منتصر. ينتصر على كل شيء، وأي شيء في الوجود. بل إن درويش خط في قصيدته المعروفة بـ”الجدارية” تصوّرا يقينيا مفاده أن الفن أقوى من الموت نفسه، فيقول “هزمتك يا موت الفنون جميعها.. هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين. مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبدي. هزمتك وانتصرت، وأفلّت من كمائنك الخلود”. الولع بالطبيعة في ظل الصراعات المستجدة، والخلافات المستحدثة، تبقى علاقات التضامن والتقارب الأقوى بين شعوب نصف العالم السفلي والتي عانت أزمنة من القهر والاستغلال والاستعمار المرير. لم يكن غريبا أن يمدّ الوئام والشعور بالأخوة والتضامن جسورا بين مصر وإثيوبيا تتجاوز الخلافات العابرة وترسم مناطق مشتركة في العادات والتقاليد والثقافات والفنون، لذا فقد حرص الفن التشكيلي المصري في بدايته على التجاوب والتجاور والمعايشة لإثيوبيا والافتتان بها، حضارة وطبيعة وشعبا. لوحات الفنان المصري محمد ناجي عن الحبشة كانت مثالا نادرا لفن التوافق والمحبة المشتركة بين المصريين والإثيوبيين لوحات الفنان المصري محمد ناجي عن الحبشة كانت مثالا نادرا لفن التوافق والمحبة المشتركة بين المصريين والإثيوبيين إن الفن وحده هو الذي يقول الحقيقة، ويحدّد الدائم والعابر في علاقات الدول والشعوب، وينطلق بعفوية وحرية ليتجاوز بالجمال الإنساني حدود الخلافات السياسية أو غيرها من خلافات لم تكن فرعا أصيلا في علاقات الدول. تبرز لوحات الفنان المصري الراحل محمد ناجي عن الحبشة سنة 1932، كنموذج نادر لفن التوافق والمحبة المشتركة بين المصريين والإثيوبيين. تلك المحبة النابعة من شعور مشترك بالاضطهاد والتوق إلى التحرّر ومقاومة الاستغلال، فضلا عن وجود شريان حياة مُمتد من الجنوب إلى الشمال يرسم الخير والنماء، هو نهر النيل، ينحدر مع الأرض دون تدخل إنساني ويشقّ طريقه بحرية كاملة عابرا ثقافات وقبائل وألوانا وأجناسا وألسنة متنوعة، متفقة معا على احترام الإنسان. كان محمد ناجي المولود في حي محرم بك بمدينة الإسكندرية، شمال مصر سنة 1888 مولعا بالطبيعة، ومؤمنا بأن الحضارات الشرقية هي أصل الفنون ومنبع الإبداع، وأن الطبيعة الخلابة التي حبا بها الخالق بلدان النصف الجنوبي من العالم حافز وداعم للمبدعين لينطلقوا في مسالك الفن ناثرين إبداعاتهم. تعلّم ناجي في البدايات الموسيقى، وبرع في العزف على العود والكمان، كما كتب الشعر باللغتين العربية والفرنسية، غير أن معيشته في مدينة كوسموبولتية، أي متعددة الثقافات، مثل الإسكندرية، جعلته معاصرا ومتابعا لمدارس إبداعية مبهرة. تعلم الرسم على يد الفنان الإيطالي بياتولي، واستفاد من إرسال أسرته له إلى فرنسا لدراسة القانون سنة 1906 في التعرّف على مدارس الفن الأوروبي الحديث، ومتابعة معارض الفن، حتى أنه لم يعد بعد تخرّجه من جامعة ليون وحصوله على ليسانس الحقوق سنة 1910، وإنما استكمل تعليمه في أكاديمية الفنون بفلورنسا لمدة أربع سنوات، ليعود بعدها رساما محترفا، ومن أهم رواد التصوير المصري الحديث. تنقّل ناجي بين عدة مدن مثل باريس، وأثينا، وريو دي جانيرو، بحكم عمله كدبلوماسي في الخارجية المصرية، ما مكّنه من الإلمام بأساليب فنية متنوعة ومتطوّرة، دفعته إلى الإيمان بأهمية الطبيعة وتراث الحضارات القديمة في رسم شخصية وسمات كل فنان. ضوء مبهر لوحات تعبّر عن مشاعر وتقاليد ورؤى الإنسان الأسمر البسيط لوحات تعبّر عن مشاعر وتقاليد ورؤى الإنسان الأسمر البسيط يبدو أن فن التصوير كان يمثل بالنسبة إلى الراحل محمد ناجي كل شيء، حتى أن رغبته في الإمساك بالطبيعة الخلابة المحيطة وتصويرها قد ملكت جنانه، وطغت عليه إلى درجة قيامه بالاستقالة من عمله الدبلوماسي سنة 1930 ثم سفره بعدها إلى أديس أبابا لمشاهدة الطبيعة الخلابة حيث الزهور الجميلة، والحيوانات البرية، ومياه النيل وهي تتدفّق في تعرّجات مبهرة، وتصويرها. كان عمره في ذلك الحين يقترب من منتصف الأربعينات، ويعاني من شعور بعدم التحقّق الفني، ويؤمن بأن ترك بصمات خالدة يستلزم من الفنان التفرّغ التام للفن والطبيعة، ولو دفعه ذلك إلى التخلي عن عمله المرموق. في الجنوب الشرقي للقارة السمراء، وبعد أسابيع طويلة استغرقتها الرحلة بمركب فرنسي من مدينة بورسعيد، شرق القاهرة، إلى مدينة جيبوتي جنوبا، ثم رحلة أخرى بالقطار إلى أديس أبابا، وجد ناجي ذاته، وحقّق طموحه الفني، فأبدع بصدق وحب، وصوّر طبيعة ساحرة ورسم وجوها أفريقية خالصة، مليئة بالرضا والمحبة، والبراءة، وعبّر عن مشاعر وتقاليد ورؤى للإنسان الأسمر البسيط. أبهرته مبكرا إثيوبيا، أو بلاد الحبشة، كما كان يطلق عليها، حيث زارها مع جدّه الضابط في الجيش المصري المرابط على الحدود بين إثيوبيا والسودان. ورغب ناجي كفنان في تخليد تلك الأزهار البرية الجميلة، والحيوانات الغريبة التي رآها تنطلق بكل حرية حول ضفاف الأنهار، كما ذكر لشقيقته في ما بعد. اقترب المبدع من بؤرة الضوء المبهرة، وعايش الناس أجسادا وأرواحا، وأحبهم، وتعرّف على عاداتهم، والتحم معهم اجتماعيا، وصوّر مشاهد مليئة بالحركة والحيوية، وصنع من الألوان محاكاة ساحرة تجاوزت تصوير المرئيات نفسها إلى تصوير المشاعر والأحاسيس الإنسانية. خاض محاولات تجريب متنوّعة ارتكزت على التأثّر الشديد بمدارس الفن الأوروبية، غير أنه اكتشف أن المبدع هو ابن محيطه، إذ يزور بساتين الورود المحيطة به، فيعيد نثر رحيقها للعالمين. الفن لا يولد بمراسيم حكومية، أو بقرارات فوقية، ولا يُصنع بخطط مسبقة، إنما هو جمال رباني يسيح في فضاءات الكون ويمكن القول إن ناجي اكتشف ذاته الحقيقية في إثيوبيا، حيث اقتنع بأن المصريين الذين نقشوا النقوش الخالدة على المعابد القديمة يشبهون في تقاليدهم وعاداتهم الأحباش الذين اغترفوا الكثير من جمال الطبيعة الساحرة. يلاحظ النقاد أن رسومات محمد ناجي في الحبشة استفادت من سمات النقوش المصرية القديمة في حصر الشخوص في الثلث الأسفل، والتعبير عن المشاعر بدرجات متفاوتة من الألوان الطبيعية. في لوحة “محاكمة في الهواء الطلق” يرسم الفنان محاكمة بعض الجناة في إحدى القضايا في أديس أبابا، ويظهر جميع شخوص الصورة في الثلث الأسفل منها، بينما تسيطر السماء الصافية على الجانب الأعلى، وكأنها تعبّر عن صفاء العدالة فوق المجرمين، وهي سمة مستوحاة من الرسومات المصرية القديمة، ولم يظهر الفنان اهتماما كبيرا بالمنظور والعمق والأبعاد بما يشابه نقوش الفراعنة، وعكست هذه اللوحة حرارة المكان، حيث السخونة التي تظهر في درجات الألوان، كما تبدو متوهجّة في عيون الشخوص. في لوحة “بسطاء من الحبشة” تلتحم الطبيعة مع الشخوص في تناغم حقيقي بدرجات لونية باعثة على البهجة والسرور، وتحتوي على الكثير من العناصر المتناسقة التي تعزّز أن المبدع يستطيع نقل الطبيعة بريشته. أما في لوحة “الأمير النجاشي يخرج إلى الناس”، صور ناجي الملك الأسطوري للحبشة وهو يمتطي حصانا ويخرج إلى الناس، وتبدو سحن المواطنين معبّرة بواقعية عن استبشارهم ورضاهم بالعدل والأمان الذي يتيحه الحاكم برعيته، وراعى تقديم ثيمات جديدة تُقارب ألوان الطبيعة. هناك لوحات ورسومات أخرى تُضيء الحياة وتبعث السرور في النفس، وهي التي تصوّر الناس على جانب النيل الأزرق وفرحهم بحلول الفيضان الذي يمثل الخير، فضلا عن الأفراح والغناء وحفلات السرور، وما فيها من آلات موسيقية على خلفية طبيعة ساحرة. تأثر فرعوني النيل.. شريان حياة مُمتد من الجنوب إلى الشمال النيل.. شريان حياة مُمتد من الجنوب إلى الشمال اهتم الفنان المصري خلال إقامته في أديس أبابا بمقابلة الإمبراطور هيلاسلاسي وتصويره، وتصوير كبار رجال دولته، ونقل مشاهد لقصره الفخم، وما يوحي به من سمات عظمة وأبهة، وبدا الرجل يملك نظرة هادئة تحمل الكثير من الحكمة والكبرياء، ويلوح من عينيه ألق الانشغال بالناس والتفكير في أحوال شعبه. لاقت تلك الرسومات المبهرة الخالدة إعجاب الإمبراطور وكبار رجال الدولة وقتها إلى درجة أنه منح الفنان محمد ناجي القلادة الذهبية للإمبراطورية. ومثلت تجربة الحبشة ذروة التألق الفني للمبدع، وحقّق خلالها طموحاته ورؤاه الفنية بشكل مثالي حتى أنه يقول عن ذلك “لقد اكتشفت ألوانا جديدة للطبيعة الخلابة لم أكن قد رأيتها من قبل، واستخدمت التجريد بمزج خاص كما تعلمته من المصريين القدامى، وكما قدّمه الفن الإسلامي، لأصوغ تصوّرا ملحميا للحياة في هذه البلاد الجميلة”. وفي تصوّر النقاد وأساتذة الفن، فإن الرجل الذي أسّس في مصر أتيليه القاهرة سنة 1951، ورحل سنة 1954 وتم تحويل مرسمه بالجيزة إلى متحف فني افتتح سنة 1991، كان نموذجا فذّا على رصد الحياة بنبضها الإنساني الفريد، من خلال معايشة الطبيعة والاقتراب منها، وليس مجرد التخييل. يقول الفنان التشكيلي عزالدين نجيب في كتاب “فجر التصوير المصري”، “إن ناجي مثل الرومانسيين ظل منقسما بين الحلم والواقع لفترة طويلة جعلته أشبه بمن يضع قدما في أوروبا وقدما ثانية في مصر، لكنه أدرك في ظل نمو جيل التنوير المصري في مطلع القرن العشرين أن النهضة ينبغي أن تقوم على روح جديدة تعتمد على استنهاض روح الأسلاف في حضاراتهم المختلفة والتوفيق بينها وبين الحداثة”. تمثلت قضية الفنان الأساسية في أن يجعل من استيعابه للفن الأوروبي مدخلا لفهم فن بلاده، وصولا إلى تحقيق أسلوب متميز يجمع بين الأصالة والمعصرة، ويجعل من فنه فنا عظيما له صفة الخلود. ويرى نجيب أن إعجاب التشكيلي محمد ناجي بالفنون الشعبية، والتي قال عنها في محاضرة له سنة 1928، إنها “تعبّر أبلغ تعبير عن قوى الإبداع والابتكار الكامنة في الشعب، ودفاعه الحار عن الفن البدائي، جعلاه يفقد انبهاره بالانطباعية، وهو ما دفعه أيضا لمغامرته الحبشية، متأثرا في ذلك برحلة الفنان الفرنسي بول غوغان الشهيرة إلى جزر تاهيتي، والتي فجّرت عبقريته”.

مشاركة :