لوحة فان غوخ التي رسمها يوم انتحاره تبوح بسرّها | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 8/24/2020
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

الحدث الذي شدّ مؤخرا انتباه أهل الفن وعشاقه وجلب أنظار وسائل الإعلام، هو إماطة اللثام عن سرّ “جذور”، آخر لوحة رسمها فان غوخ يوم انتحاره، فقد حار النقاد والمؤرخون في تأويل هذا العمل، ومعرفة ولادته، هل كانت من وحي الخيال أم تمثلا لمنظر طبيعي واقعي؟ يوم الثامن والعشرين من شهر يوليو الماضي، التقى خمسون شخصا، في مقدّمتهم فانسان فيليم فان غوخ ابن حفيد تيو أخ الرسام فان غوخ، وإيميلي غوردنكر مديرة متحفه بأمستردام، ودومينيك شارل يانسنس رئيس معهد فان غوخ في بلدة “أوفير سور واز”، التي تبعد عن باريس قرابة ثلاثين كليومترا شمالا. والسبب جذوع أشجار عارية، معقودة وملتوية على حافة مسلك غير بعيد من مقر البلدية، جلبت في ظرف بضعة أيام أنظار مؤرخي الفن والإعلاميين، بعد أن أكّد معهد فان غوخ، وهو جمعية تعمل على صيانة ذاكرة الفنان الهولندي الشهير، أن تلك الجذور هي التي اتخذها الرسام موديلا للوحته الأخيرة “جذور”، تلك التي بدأها يوم 27 يوليو 1890 ولم يكملها، لأنه انتحر بعد عودته إلى فندق رافو ببلدة أوفير سور واز، إذ أطلق رصاصة على صدره وبقي يومين يعاني الألم والعذاب قبل أن يلفظ أنفاسه. ظل ذلك اليوم الأخير في حياة فان غوخ مبعث تساؤل لدى مؤرخي الفن طيلة مئة وثلاثين سنة، قبل أن يتبدّد الشهر الماضي، فقد اختلفوا في تأويل اللوحة وتحديد المكان الذي تمثله، مثلما اختلفوا في سبب انتحاره، فبعضهم ذهب إلى أن هوس جنون استبد به، فيما زعم آخرون، وخاصة الأميركان، أنه أصيب بعيار ناري من مسدس كان يلهو به بعض الأطفال. ولم يتضح إلاّ مؤخرا أن اللوحة كانت رسالة وداع، أراد فيها فان غوخ أن يعبّر عن سيرورة الحياة من خلال ما يتبدى في تلك الأشجار الهرمة، التي جرّدت عوامل التعرية جذورها، ولكن بقيت أروماتها تبشر بانبعاث، فقد كتب يقول عام 1882 في إحدى رسائله لأخيه تيو “أردت أن أعبرّ، سواء في صورة هذه المرأة الشاحبة الناحلة أو في هذه الجذور السوداء بعُقدها، عن شيء من الصراع لأجل الحياة”. صورة مركبة للوحة "جذور" والبطاقة البريدية صورة مركبة للوحة "جذور" والبطاقة البريدية جاء الاكتشاف صدفة، بفضل الحجر الصحي، إن جاز القول، ذلك أن فوتر فان درفين الباحث الهولندي المقيم في ستراسبوغ، الذي ألف عدة كتب عن فان غوخ، كان يزجي أوقات الحظر بترتيب وثائقه المتراكمة ورقمنتها، حين عثر على بطاقة من بين عدة بطاقات بريدية تمثل مناظر من بلدة أوفير سور واز كانت بحوزته، يرجع عهدها إلى العشرية الأولى من القرن العشرين. توقفت عيناه عند جزئية في البطاقة، جزئية حاضرة في آخر لوحة رسمها فان غوخ، وهي أن هيئة الجذور والجذوع توافق مثيلاتها في اللوحة. كانت بطاقة عادية بالأسود والأبيض، يبدو فيها من خلف رجل يجرّ دراجة مفشوشة، في طريق على حافة هضبة، بها أشجار مديدة الجذوع عارية الجذور. وفي أسفل البطاقة “أوفير سور واز – نهج دوبينيي”. قام بتكبير البطاقة ثم وضعها على شاشة حاسوبه جنب صورة من لوحة “جذور” للمقارنة. ولكن ككل باحث جدّي يتوخى الصرامة في عمله، بدأ بالبحث عمّا يدحض نظريته أوّلا، فلمّا حلّل الصورة عن قرب، تبدّت له عدّة جزئيات تؤكّد ما ذهب إليه، كالبثرة في أحد الجذوع، وهيئة بعض الجذور، إضافة إلى نوع من اللون العاجي على يمين اللوحة، اتضح على أرض الواقع أنه جدار من الحجر الجيري لا يزال موجودا حتى اليوم. فان غوخ عبّر في لوحة "جذور" عن سيرورة الحياة من خلال ما يتبدّى في الأشجار الهرمة من تعرية وانبعاث متجدّد ولما اقتنع بأن الأصل واحد، عرض فرضيته على المتخصّصين في متحف فان غوخ بأمستردام، فقام أحدهم هو تيو ميدندورب رفقة زميله لويس فان تيلبورغ بقيس المسافات والزوايا والأبعاد، واستعانا بمتخصّص في علم الأشجار والنباتات الليفية، أعرب في البداية عن إمكانية تطوّر الأخشاب التي تتعانق في البطاقة البريدية، ما يجعل التأكّد من المكان الذي اتخذه فان غوخ موديلا أمرا صعبا. وبعد خمسة أسابيع من الدارسة والمقارنة والتنقل على عين المكان، تأكّدت الفرضية. أشياء كثيرة تغيّرت، ولكن الموديل لا يزال كما كان، بجزئيات لا تخطئها العين، كالجذر الأفقي الذي يمتد خلف الشجرة. فما قيمة هذا الاكتشاف؟ يقول فان درفين “صرنا نعرف اليوم ماذا فعل فان غوخ يوم انتحاره. معرفة المكان مشفوعة بدراسة ألوان اللوحة، الملائمة لهذا الموقع، حتى هبوط الليل، تسمح بأن نستخلص أن الفنان ظل يرسم كامل النهار قبل أن يضع حدّا لحياته، وتسمح أيضا بتأويلها بما يناسب. فقد ظل النقاد والمؤرخون زمنا عاجزين عن فهم ما تمثله، فذهبوا في تأويلها مذاهب شتى، ألصقت كلها بحالة فان غوخ النفسية والعصبية، والحال أنه لا يرسم إلاّ حينما يكون في كامل قدراته، إذ كان يفكر طويلا في العمل الذي يقدم عليه”. ويبقى السؤال: لماذا انتحر فان غوخ قبل أن ينهي هذه اللوحة التي أرادها وصية بالألوان؟ هل هي رمز لحياته التراجيدية التي قرّر التوقّف عنها هي أيضا وهو لم يتجاوز عامه السابع والثلاثين؟

مشاركة :