فتح انقلاب مالي الأخير على السلطة الباب أمام عودة قوية للتنظيمات الإرهابية، حيث يسعى تنظيما داعش والقاعدة إلى استثمار الاضطرابات الأمنية لصالحهما. ويرجّح الخبراء عودة قوية لداعش، حيث تشكل التحولات الطارئة في مالي فرصة لاستعادة سيطرته على المناطق التي خسرها عندما اضطره مقاتلو القاعدة إلى التقهقر داخل بوركينا فاسو، مستندا إلى تراجع مكاسب القاعدة التي جناها في السابق جراء تقاربه مع السكان المحليين ومع البدو الرحل في المناطق الصحراوية. خلط الانقلاب العسكري الناعم الذي أطاح بالرئيس أبوبكر كيتا في 18 أغسطس الجاري أوراق التنظيمين الجهاديين الرئيسيين الناشطين بشمال مالي، داعش والقاعدة، مع تغير المعطيات التي رجحت حظوظ أحدهما على حساب الآخر بدول الساحل الأفريقي على مدار السنوات الماضية. ومع إعلان الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا استقالته رسميا في أعقاب احتجازه على يد المجموعة التي قادت الانقلاب ضده، فقد تنظيم القاعدة المكون من عدة أجنحة متحالفة فرص استكمال خطط الهيمنة على المشهد الجهادي بالساحل الأفريقي من خلال الدخول في شراكة سياسية مع الحكومة المالية بعد إبداء الطرفين استعدادهما في وقت سابق للتفاوض. ويطمح داعش إلى قلب الطاولة واستثمار الاضطراب السياسي بعد الانقلاب بغرض إغراق المنطقة في فوضى أمنية تقلل من فرص احتواء القاعدة في المشهد السياسي المالي، ما يعزز نفوذه كفاعل سياسي بمنطقة الساحل، لاسيما داخل المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، لأن القاعدة بنى سيناريو التفاوض مع الحكومة المالية السابقة على أساس ضرورة التعاون مع الإسلاميين الماليين المحليين بغرض تقويض وإقصاء الجهاديين الأجانب والوافدين المنضوين في غالبيتهم تحت لواء داعش. توظيف سياسي للانقلاب صعود نخبة حاكمة جديدة لا تتبنى نفس القناعات تجاه فرع القاعدة في مالي (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) بعد أحداث أغسطس، قطع الطريق أمام استثمار الإسلاميين لنشاطات راوحت بين العمل العسكري وتنفيذ عمليات إرهابية والعمل الجماهيري وقيادة مظاهرات رافضة للوضع السياسي القائم ولممارسات السلطة. واستفاد تنظيم القاعدة من حراك الخامس من يونيو الماضي الجماهيري الذي ضمّ شخصيات دينية وسياسية ومؤسسات مجتمع مدني، وقاده القيادي الإسلامي المستقل محمود ديكو، الذي تربطه علاقات جيّدة بالإسلاميين الماليين، حيث عزز من قوتهم وأوجد لهم ظهيرا شعبيا ناقما على سياسات رئيس الجمهورية، الذي رضخ لمسار التفاوض مع قادة القاعدة قبلها بعدة أشهر معلنا في فبراير الماضي قبوله بالحوار معهم. داعش يريد استثمار الاضطراب السياسي بغرض إغراق المنطقة في فوضى أمنية تقلل من فرص احتواء القاعدة في المشهد المالي وأظهر تسلسل الأحداث منذ صعود قوة القاعدة بعد انقلاب 2012 مرورا بانفصال الإمام محمود ديكو عن الرئيس المعزول أبوبكر كيتا بعد أن كان أحد المقربين منه منتهجا خطا أقرب لتحريك الأحداث بواسطة الإسلاميين وعبر التحالف مع مؤسسات وأحزاب مدنية وبروز الإسلاميين كقوة قادرة على الحشد الجماهيري وليست فقط منفذة لعمليات مسلحة، ما يعني إمكانية وثوق المواطنين بهم، وانتهاء بالتمرد العسكري الأخير وما لفه من غموض، أن ملف السلام والتصالح مع الجماعات المسلحة في الشمال كان في صلب شواغل من قادوا الانقلاب العسكري ضد الرئيس كيتا. وما عزز الربط بين احتجاجات يونيو، التي ضاعفت من نفوذ الإسلاميين الذين كانوا في قلب الحراك والانقلاب العسكري الأخير، هي المخاوف من سيطرة الإسلاميين على مقاليد السلطة في مالي، على خلفية تصدّر التحالف الإسلامي المدني للمشهد السياسي مسنودا بزخم جماهيري واسع. واستبق الانقلاب العسكري الأحداث مُجبرا الرئيس على تقديم استقالته، ما يعني أنه قطع الطريق وحرم الإسلاميين من جني مكاسب سياسية معتبرة في حال نجاحهم في إسقاط السلطة القائمة، وفي حال نجحت حركة الشارع في إجبار الرئيس على الاستقالة والتنحي، لأن قيادات التحالف الإسلامي المدني طالبت بالعصيان المدني بهدف الضغط على الرئيس لتقديم استقالته، وهو ما كان سيفتح المجال واسعا أمام المعارضة الإسلامية المنحازة لجهاديي القاعدة للصعود إلى سدة السلطة. واكتشاف قنوات جديدة للتغيير من خلال خيارات التمرد العسكري دفع إليه ضمن اعتبارات أخرى تحقيق الإسلاميين مكاسب كبيرة خلال الأشهر الأخيرة، ليس فحسب على صعيد التأييد الشعبي لحركة الشارع ضد فساد النظام وسوء إدارته وتجاوزاته ضد المعارضة، وإنما إزاء ما حققه تنظيم القاعدة من رواج شعبي مبني على ما يحرزه من انتصارات ميدانية في مواجهة داعش الذي يمثل رعبا حقيقيا للسكان المحليين بالنظر إلى ممارساته الوحشية وتضييقه على الحريات والأرزاق، تحت عنوان فرض الزكاة، ما جعل حرب القاعدة ضد داعش في المثلث الحدودي الذي يربط بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو عاملا إضافيا لتصاعد شعبيته وحضوره لدى غالبية السكان المحليين. واستشعر قادة القاعدة القوة من جهة الإسناد والزخم الجماهيري والحضور القوي في قلب معارضة فاعلة تضم قوى وكيانات مدنية في مواجهة رئيس ضعيف يفتقد للكاريزما القيادية، ما دفعهم للانقلاب على توجّه سابق حرص على جعل منطقة الساحل استثناء وسط الصراعات المحتدمة بين القاعدة وداعش في كل مكان في العالم. وبعد أن كانت هناك حملة هادفة لتوحيد التنظيمات الجهادية بمنطقة الساحل الأفريقي تحت لواء مشترك، خاض تنظيم القاعدة معارك لطرد داعش من مناطق مختلفة في مالي. تحولات طارئة داعش يراهن على عدم الاستقرار السياسي في مالي داعش يراهن على عدم الاستقرار السياسي في مالي لم يستطع داعش حيال ترجيح كفة القاعدة العسكرية ونجاحه في السيطرة على مناطق كانت واقعة تحت سيطرة داعش في المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر مُوقعا عددا من القتلى والأسرى في صفوفه، سوى بث دعايات يائسة عبر منافذه الإعلامية وحسابات أعضائه على التيليغرام ضد التنظيم، باعتباره “شق صف الجهاديين وشغلهم عن هدفهم الرئيسي وهو قتال الحكومات والدول”. وسبق المواجهات بين التنظيمين تمدد ملحوظ لداعش منذ بداية العام الحالي داخل مناطق نفوذ القاعدة ما مكنه من ضم أراضٍ بمنطقة غرب أفريقيا، قاصدا منافسة الأخير داخل أهم معاقله في أفريقيا حيث الموقع المثالي لنمو التنظيمات الإرهابية كبيئة جبلية صحراوية في شمال مالي، وما تمنحه هذه المنطقة لمن يسيطر عليها من ثراء واكتفاء مادي ومن لعب أدوار مؤثرة وتوجيه دفة الأحداث الأمنية والسياسية بشأن ثلاث دول مهمة وكبيرة بالساحل الأفريقي، هي مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ويجد داعش في التحولات الطارئة في مالي فرصة لاستعادة سيطرته على المناطق التي خسرها عندما اضطره مقاتلو القاعدة إلى التقهقر داخل بوركينا فاسو، مستندا إلى تراجع مكاسب القاعدة التي جناها في السابق جراء تقاربه مع السكان المحليين ومع البدو الرحل بالمناطق الصحراوية، مقدما نفسه كبديل عن السلطة الفاسدة ومنقذ للماليين من توحش وقسوة داعش الذي يعتبره غالبية سكان مالي كيانا أجنبيا دخيلا. وتوفر الاضطرابات السياسية بعد انقلاب أغسطس بيئة أمنية مواتية لداعش تمكنه على الأقل من استعادة ما خسره من نفوذ وأراضٍ نجح في الهيمنة عليها منذ أن بدأ صراعه مع القاعدة مراوحا بين المهادنة والقتال، بداية من استيلائه على مناطق على الحدود بين مالي والنيجر في 2015، منطلقا منها إلى التمدد في عمق مالي وبوركينا فاسو، مهددا نفوذ القاعدة في ساحات نفوذه الرئيسية قبل أن يجبره الأخير على التراجع قبيل الانقلاب. ويراهن داعش على عدم الاستقرار السياسي في مالي التي توالت عليها ثلاثة انقلابات عسكرية بواقع انقلاب في كل عقد منذ 1991 و2012 إلى 2020، بهدف تعزيز نشاطه وتقديم نفسه كبديل للمؤسسات الوطنية وللجهاديين المحليين الجانحين للتفاوض مع الحكومات وتحقيق مكاسب سياسية دون النظر لمصالح الشعب وثوابت العقيدة، وفق رؤية قادة وأعضاء داعش وتفسيراتهم الخاصة بهم. وبعد أن صارت لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة اليد الطولى في المنطقة، يأمل داعش في إعادة تموضعه من خلال تصعيد وتيرة الإرهاب وتعزيز صورته الجهادية عبر التمدّد الاستراتيجي والعملياتي في منطقة الساحل، مغتنما الارتباك السياسي والأمني المعتاد بعد كل انقلاب عسكري، بعد أن ثبت من خلال التجارب السابقة أن أكبر المستفيدين من الانقلابات هي التنظيمات الجهادية، حيث لم تظهر فصائل القاعدة القادمة من الدول المحيطة بجانب الإسلاميين المحليين ولم يتمكن القاعدة من توسيع رقعة نفوذه في شمال مالي إلا بعد انقلاب عام 2012. ويأمل قادة داعش في إغلاق قادة التمرّد العسكري الأخير الطريق أمام طموحات تنظيم القاعدة وحلفائه من القيادات الدينية وفي مقدمتهم الإمام محمود ديكو، حتى لا تنمو شرعية للقاعدة بجانب النخب السياسية أو على حسابها كما كان واقع الحال منذ حراك يونيو الماضي. ويحمل إعلان قادة الانقلاب العسكري عن تشكيل ما أطلقوا عليه “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب” ودعوتهم إلى انتقال سياسي مدني ديمقراطي وانتخابات عامة عبر خارطة طريق تضع الأساس لمالي جديدة، مضمونا سياسيا وفكريا موجها يتناقض مع برامج القاعدة المعلنة، التي وإن حرصت على عدم الإعلان عن نيتها في الانفصال عن مالي، فقد أكدت سعيها لفرض الشريعة الإسلامية على عموم مالي من شمالها إلى جنوبها، ما يشي بأن السلطة القادمة ستتوخى عدم الارتهان لإرادة وتوجيه إسلاميين ينشطون في خدمة مصالح حلفاء جهاديين من الشمال والوسط.
مشاركة :