مرّة أخرى، تكرّس قناة الجزيرة كل جهودها لتزييف التاريخ وتشويهه عبر عرض فيلم وثائقي كان محوره المناضل الجزائري العربي بن مهيدي، ليس بهدف الخوض في تفاصيل تصدي مناضل جزائري للاحتلال الفرنسي بل لمواصلة السير في نهج خدمة أجندات تركيا في شمال أفريقيا وخاصة في ليبيا. فلقد وظفت القناة القطرية مسيرة كفاح بن مهيدي عبر معالجات مجتزأة الغاية منها بث الفتن بين مصر والجزائر وتشويه العلاقة بينهما خدمة للسياسة التركية في ليبيا. في المقابل تغافلت عن تورط الدولة العثمانية في جرائم كثيرة ارتكبت في حق الشعب الجزائري وخدمت الاحتلال الفرنسي. القاهرة - كرست قناة الجزيرة القطرية من خلال عرض فيلم وثائقي عن المناضل الجزائري العربي بن مهيدي وبأسلوب دس السم في العسل، إخضاع إمكانياتها وجهودها لخدمة المساعي التركية الحثيثة للتأثير على دول الجوار الليبي خاصة تونس والجزائر، بما يؤكد أن الأجندة التي تتبناها ليست بعيدة عما يدور في المنطقة من تطورات، وتحاول التمهيد لتقديم رؤى مناقضة لكثير من الوقائع جريا وراء تحقيق مكاسب سياسية في لعبة توازنات دقيقة. وبات واضحا من المعالجة التاريخية المجتزأة والإسقاطات السياسية المقصودة أن القناة القطرية لا تهدف من وراء بث الفيلم الاحتفاء بنضال الشعب الجزائري في مواجهة المستعمر الفرنسي لنيل استقلاله وإنما لإبراز وتضخيم بعض الخلافات الجانبية التي لم تغب عن أي ثورة وحركة استقلال في العالم من خلال التركيز على جزئيات وأحداث صغيرة بهدف التشويش على الإنجاز العربي الجزائري الكبير. الاحتلال العثماني وظفت الجزيرة مسيرة كفاح المناضل الشهيد العربي بن مهيدي (1923 – 1957) وهو أحد أيقونات الثورة الجزائرية ومفجريها، وأسهم بدور فعال في احتضان الشعب لثورة الاستقلال وهو صاحب مقولة “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”، في إطار استراتيجيتها الدعائية الرامية لشق الصف العربي واستمالة الجزائر إلى المحور الإخواني التركي، ضد المحور المصري الإماراتي السعودي الفرنسي الداعم للجيش الوطني الليبي، والمناهض للتدخل التركي، والرافض لاستمرار تدفق المرتزقة. واستغلت الجزيرة غياب بعض الفضائيات العربية عن المعالجات الاستقصائية للملفات المتشابكة مع التحديات العربية الحالية من الزاوية التاريخية أو الواقعية المعاصرة بأسلوب استباقي، وظهر التعمد في تضليل الرأي العام العربي من خلال تكتيك دعائي يعتمد على تقديم نصف الحقيقة وإخفاء نصفها الآخر لأغراض تخدم في الأساس الأجندة السياسية للمشروع التركي في المنطقة العربية. توقيت عرض الفيلم مرتبط بإرادة تشويه فرنسا لدى المشاهد العربي لكنه منفصل تمامًا عن الحياد والأمانة في عرض الحقائق التاريخية كما هي، لأن الاحتلال الفرنسي وما صحبه من انتهاكات سبقه احتلال تركي عثماني للجزائر حافل بالجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية. ويرجع التركيز الدعائي فقط على مساوئ الاحتلال الفرنسي دون التطرق للاحتلال العثماني الذي أذاق بلد المليون شهيد الويلات على مدى قرون طويلة لخطط إعلامية مدروسة بعناية وموظفة سياسيًا ومتعلقة باختلاف مصالح قطر وتركيا مع فرنسا في الشأن الليبي. الحقائق المواكبة للثورة الجزائرية بداية من منتصف خمسينات القرن الماضي أشد قوة وأكثر تأثيرًا، لأن أنقرة هي من صوتت ضد كل القرارات التي كانت تصب في صالح الثورة الجزائرية ضد المحتل الفرنسي بالأمم المتحدة، قبل أن تنال الجزائر استقلالها بنضال وتضحيات أبنائها وبالتعاون والمؤازرة المصرية والعربية سنة 1962. تركيز دعائي إخواني على مساوئ الاحتلال الفرنسي دون التطرق للاحتلال العثماني الذي أذاق الجزائريين الويلات الرواية المضللة التي سردتها الجزيرة في ثنايا استعراضها لقصة المناضل العربي بن مهيدي لخدمة الأطماع التركية في الشمال الأفريقي والمنطقة العربية، من السهل تقويضها بعرض نصف الحقيقة الآخر الذي أخفته القناة القطرية والمتعلق بمشاركة أنقرة في كل جرائم الاحتلال الفرنسي في بلد المليون شهيد، فقد كانت تركيا عضوًا في حلف شمال الأطلسي مع باريس وكانت تقتل الجزائريين بأسلحته، ما دفع رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق، أحمد أويحيي إلى القول “لا بد أن رصاصة ما قتلت أهلنا مصدرها تركي”. ورطت الجزيرة نفسها في أخطاء تاريخية مكشوفة بهدف الإيحاء على خلاف الحقيقة بأن فرضية الاصطفاف الجزائري التونسي الوهمي مع تركيا في ما يتعلق بالشأن الليبي، تعضده مواقف تاريخية عربية طبعها خذلان الثورة الجزائرية والتلكؤ في دعمها، وأن ما جرى من دعم عربي لحركة الاستقلال في الجزائر كان محدودًا من منطلق المصالح السياسية والشخصية بين الزعيمين جمال عبدالناصر وأحمد بن بلة، زاعمة بأن المناضل بن مهيدي كان ساخطًا على القاهرة وعاد غاضبًا من زيارتها، مستغلة خلافات مسكوت عنها بين ثوار الداخل ومناضلي الخارج. الرغبة المحمومة من جانب آلة الدعاية القطرية في التأثير على الموقف الجزائري خاصة بعد التطورات التي زادت من عزلة رجب طيب أردوغان على المستوى الدولي بسبب نهجه في ليبيا وشرق المتوسط، دفعتها لخوض محاولة يائسة لتزييف حقائق تاريخية ثابتة وقلبها رأسًا على عقب. طمست الجزيرة خيانة وتآمر العثمانيين الذين يعتز النظام التركي الحالي بميراثهم ويسير على نهجهم، لاسيما توقيعهم على معاهدات تمنح أراضي شاسعة للدول الأوروبية، استشهد في سبيلها مئات آلاف من المسلمين والعرب في الجزائر وغيرها، قافزة على انبطاح العثمانيين أمام الرغبات الاستعمارية لملوك أوروبا وتنازلهم طوعًا عن ولايات وحصون وقلاع، بعد أن أصبح السفراء والقناصل الأجانب يسيطرون على قرارات السلاطين فارضين عليهم تعيين مستشارين أجانب. تعمد وثائقي الجزيرة إخفاء الجريمة والفضيحة الموثقة التي ارتكبتها تركيا ضد الجزائريين وثورتهم قبل الاستقلال وتصويت الأتراك ضدها في الأمم المتحدة، علاوة على اشتراكهم في حلف الأطلسي مع فرنسا حينما كانت الأخيرة تدك بآلتها العسكرية المدن الثائرة والقرى المنتفضة بالجزائر. استهدف وثائقي القناة القطرية النيل من قيمة وتاريخية الدور المصري المشهود والمعترف به من جميع الأطراف في نصرة الثورة الجزائرية في محاولة للتقليل منه موظفة واقعة مطعون في صحتها مردها بعض الخلافات الهامشية بين الثوار وليس الشك في حجم الدور العربي والمصري في مؤازرة الجزائريين لنيل استقلالهم. ترتب على دعم مصر لثورة الجزائر بالسلاح والخبراء اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي عليها في العام 1956 لقناعة فرنسا كما ورد على لسان وزير خارجيتها وقتئذ كريستيان بينو، أن التمرد في الجزائر لا تحركه سوى المساعدات المصرية فإذا توقفت فستهدأ الأمور، ولتحريض تل أبيب على لسان دافيد بن غوريون داعيًا الفرنسيين أن يقدروا أن عبدالناصر الذي يهددنا في عمق إسرائيل هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر. بناء القصة الإعلامية وفق التسلسل الصحيح للوقائع من شأنه أن يقلب السحر على الساحر، فهو يصب في المسار المعاكس لأهداف الفضائية القطرية وهو مسار توطيد العلاقات الجزائرية المصرية، وهي الرواية التي منحها المناضل العربي بن مهيدي بنفسه المصداقية من خلال صمته عن الخلافات مع أحمد بن بلة وعن الخلافات بين الثوار، مقابل ثنائه على الدبلوماسية الجزائرية التي بدأت من الأخوة الكبيرة والدعم اللامتناهي للشعوب العربية والأفريقية والآسيوية. تاريخ التعاون والتضامن العربي لنيل الاستقلال والحرية ولتنعم الشعوب العربية بثروات بلادها، عكسه الاستقبال التاريخي الذي حظي به الزعيم جمال عبدالناصر خلال أول زيارة بعد الاستقلال عندما وفد أكثر من مليون جزائري على العاصمة محتلين الشوارع التي مر بها موكب عبدالناصر من الميناء إلى قصر الشعب، الأمر الذي يضفي على تكتل المحور العربي في مواجهة مشاريع التوسع الإقليمية التي تقودها تركيا أبعادًا تاريخية متجذرة في الوجدان وفي مسيرة نضال الشعوب العربية. أوحى عدم اضطلاع الإعلام العربي بمسؤولياته من خلال أداء استباقي واحترافي متطور يوصل لإدراك عموم الجمهور العربي حجم المخاطر والمؤامرات، بوجود فجوة بين ماضي العرب النضالي المشترك وحاضرهم، وأغرى الإعلام المعادي اللعب على وتر اختلاف هامشي في النظرتين المصرية والجزائرية للملف الليبي بغرض ترسيخه، في نفس الوقت الذي ظل الموقف الجزائري نخبويًا وشعبيًا بعيدًا عن الموقف التركي القطري، ربما بمسافة أكبر حتى من المسافة بين الموقف التونسي من نفس الملف، وهو ما أكدته تصريحات الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الأخيرة على قناة فرانس 24 التي وصف فيها حكومة الوفاق الليبية بأنها قد تجاوزتها الأحداث. تزداد الحاجة العربية لإعلام احترافي بالنظر إلى أن وثائقي الجزيرة مثلًا عن المناضل العربي بن مهيدي لم يكن فحسب بغرض الإيحاء بامتلاك النظام التركي لدعم إقليمي عربي لتوجهاته في الملف الليبي ولتسويغ خلق نقطة ارتكاز لمجهوده العسكري والأمني في ليبيا، بل تم إنتاجه كإحدى أدوات الدعاية لمشروع بسط النفوذ القطري التركي على شمال أفريقيا وإعادة بعث الإرث الاستعماري العثماني الغابر للمنطقة التي لفظتهم بعد قرون من الجور والاستبداد. الوثائقي الذي تم إنتاجه وعرضه قبل عامين بمناسبة الذكرى الـ64 لثورة نوفمبر المجيدة وأعيد عرضه مؤخرًا، عكس تركيز الدعاية التركية القطرية على محاولات خلخلة واختراق الصف العربي وبث الفتن والفرقة بين الدول وداخل المجتمعات العربية، في إطار مشروع التوسع التركي الذي لم تكن الجزائر بعيدة عنه، عندما سعى أردوغان لدعم إخوان الجزائر وتجهيزهم للحكم وتمكينهم من البلاد. وكل هذا كان واضحا من تصريحات ومواقف عبدالرازق مقري رئيس حركة حمس الإخوانية، خاصة بعد عودته من ملتقى العدالة والديمقراطية بإسطنبول الذي وصف بالمحفل الإخواني العالمي في العام 2015 والذي كان مخصصًا لمناقشة دعم إرادة الشعوب في الحصول على الحرية والديمقراطية. النضال العربي الكبير في مواجهة هذا المشروع الاستعماري المقنع بشعارات دينية زائفة، والخلاص من الوصاية والاحتلال أيًا كان مصدره والذي يستمده العرب من ماضي نضال أجدادهم سواء القريب في مواجهة الاحتلال الغربي أو البعيد في مواجهة الاحتلال العثماني، لن يتحقق بما يتطلبه من إنجاز سريع وحاسم على كل المستويات ونحن متخبطون تائهون وفاقدو المعرفة بحقائق بلادنا الجغرافية والتاريخية، ليس هذا فحسب بل نتلقى تلك المعرفة من خصومنا وأعدائنا. لم تختر الجزيرة القطرية تناول ملف الثورة الجزائرية من بوابة استعراض مسيرة نضال أحد رموزها الكبار، العربي بن مهيدي، من منطلق كونه مناضلًا استثنائيًا وأحد أيقونات الثورة بما قدمه من إسهامات وتضحيات حتى استشهاده تحت التعذيب سنة 1957، إنما ركزت بخبث على الخلاف المسكوت عنه بين بن مهيدي وبن بلة أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال. خلافات هامشية التلاسن بين بن مهيدي وبن بلة على خلفية طلب الأخير بأن يكون للمقاومين المقيمين بالخارج وخاصة في مصر صلاحيات أكبر، لا يخرج عن إطار العشرات من الخلافات الهامشية غير المؤثرة في مسار الثورة وتقدمها حتى انتصارها، من عينة الخلاف الذي جرى بين المركزيين والمصاليين (نسبة إلى مصالي الحاج) نتيجة تحفظات مجموعة 21 على أنانية مصالي الحاج رغم اعترافهم بسبقه ونضاله ووطنيته، فضلًا عن العثرات التي تعرضت لها الثورة نتيجة مشكلات أكبر كانشقاق أحد الثوار وتعاونه مع القوات الفرنسية ما أدى لضربة قوية في بدايات النشاط الثوري واعتقال أكثر من مئة وستين ثائرًا. أرادت قطر اختزال نضال جبهة التحرير الجزائرية في موقف شخصي لأحد رموزها، وتوخت تحويل الخلاف الذي ذُكر فيه اسم عبدالناصر عرضًا خلال النقاش الحاد بين المناضليْن الجزائرييْن عندما قال بن مهيدي لبن بلة “هل حسبت نفسك زعيمًا فقط لأنك ارتشفت القهوة مع عبدالناصر”، إلى خلاف بين مصر والثورة الجزائرية، في حين شمل دعم القاهرة ثوار الداخل أيضًا ومنهم العربي بن مهيدي وما كان ثوار الخارج إلا حلقة الوصل بين القاهرة ورجال الثورة الجزائرية. لم تتناول السينما الجزائرية في أفلامها الثورية القديمة الجوانب القاتمة للعلاقات التي كانت تجمع رموز ثورة التحرير، وظلت هذه التفاصيل حبيسة كتب السير الذاتية ومذكرات بعض من شاركوا في الثورة، وامتنعت الجزائر في السابق عن عرض فيلم يحكي قصة المناضل العربي بن مهيدي منذ الستينات حتى الآن، عندما تدخل جمال عبدالناصر بسبب احتواء الفيلم على إساءة لأحد قادة الثورة الجزائرية، ما يؤدي لانقسام الداخل الجزائري بدلًا من أن يوحده. المخرج الجزائري بشير درايس الذي كان أحد الضيوف المتحدثين في وثائقي الجزيرة عن المناضل العربي بن مهيدي سبق وأن أخرج فيلمًا يتناول نفس الموضوع وتم رفضه من قبل السلطات الجزائرية لاحتوائه العديد من المغالطات وعرضه مشاهد تتعلق بالخلاف الذي وقع بين أحمد بن بلة والعربي بن مهيدي. تنتهك قناة الجزيرة القطرية معايير الأمانة والشفافية في تناولها للوقائع والأحداث التاريخية بهدف تطويعها لأهداف سياسية تستهدف المصالح العربية وتصب في مصلحة المشروع التركي في المنطقة العربية، ما يضعها دائمًا داخل معضلات الافتقار للموضوعية والمنطق والتناقض الفاضح. تعرض المناضل العربي بن مهيدي لأبشع صنوف التعذيب بعد القبض عليه في فبراير 1957 رافضًا أن يبوح ولو بسر صغير من أسرار الثورة قائلًا لجلاديه “أمرت فكري بألا أقول لكم شيئًا”، ما دفع الجنرال مارسيل بيجار لأداء التحية له قبل أن يأمر بإعدامه، وهو ما ينسف أساس قصة الفيلم الذي ينبش في خلاف هامشي ما كان بن مهيدي ليذكره أو يبوح بتفاصيله لو أطال الله في عمره، فقط لأنه ناضل في سبيل وطنه لا في سبيل الإخوان أو تركيا.
مشاركة :