الترجمة لا تنقل اللسان بل الخيال | محمد ماموني العلوي | صحيفة العرب

  • 9/2/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يرى المترجم والناقد شكير نصرالدين أن اختيار النصوص للترجمة بالنسبة إليه مرّ بمرحلتين، ففي بداية نشر النصوص المترجمة كان مهتمّا بالنصوص النقدية والفلسفية، وكان ذلك في أوج ما يسمى مغربيا بمرحلة الصحوة الترجمية، سنوات 1980، إذ ترجم دراسات كثيرة لنقاد مثل بارت، لوسيان غولدمان، فليب سوليرس، غريماس، جون ميشيل آدم، فوكو وغيرهم، وبالطبع ميخائيل باختين الذي ترجم له دراسة مطوّلة، وبعد ذلك بسنوات عاد لكتابه “جمالية الإبداع اللفظي”. أما عن اختيار النصوص النقدية والفكرية عموما، فيقر نصرالدين أنه بالنسبة إليه محكوم بالحاجة إلى توفير نصوص تدفع بالدرس النقدي في المغرب إلى الأمام. وبعد ذلك جاءت اقتراحات من ناشرين قصد ترجمة نصوص روائية بعينها. إذن، النصوص النقدية من اختياري، والروائية من اقتراح الناشرين. باختين والترجمة حول علاقته مع ميخائيل باختين وكيف استطاع نقل السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرة والنفسية التي حكمت نصوص باختين، يقول شكير نصرالدين إن “العلاقة ابتدأت وأنا تلميذ في الثانوي بفضل أستاذي في مادة اللغة العربية وهو أستاذي وصديقي مولاي عمر بداوي، الذي مدّني بكتيب ‘الملحمة والرواية’، بترجمة جمال شحيّد، ومن ذلك الحين توطدت العلاقة وأنا في الجامعة بقراءة ‘جمالية الرواية ونظريتها’ ثم ‘جمالية الإبداع اللفظي’ الذي أخذت أترجم منه دراسات وأنشرها منذ عام 1991 ولم يتيسّر نشره بالكامل إلا عام 2011”. ويسترسل نصرالدين، موضحا أن العلاقة مع منجز باختين تتمثل في أنه وهو يطلع على نقود أخرى، يجد نفسه دائما يرجع إلى باختين وكتبه، ذلك لأنه مفكر ومنظر جمالي اطلع على ثقافات عديدة وبلغات عدة، كما أن نظرته الحوارية للنصوص ولمنظومات الأفكار جعلته على امتداد أكثر من نصف قرن رائدا لمجموعة من المقاربات سوف تتخذ أسماء واضحة وثابتة في التاريخ الأدبي، والتي سوف تفصل في مباحث عدة: فهو عالم نصوص قبل ظهور مقاربات التحليل النص، وهو عالم ثقافة قبل موجة النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وقل الأمر نفسه عن النقد السوسيولوجي، والتاريخي، والسيميائي. كتب لكن المؤسف حقا أن أعمال باختين لم تجد لها المتسع الذي يليق بها في الدرس النقدي محليا وعربيا، إذ يتم الاكتفاء بما جاء في ترجمة منفردة هنا وهناك، وتكفي الإشارة إلى أن المعتمد حد الإنهاك، دراسة واحدة جاءت ضمن خمس دراسات في كتاب “جمالية الرواية ونظريتها”، وأقصد دراسة “الخطاب الروائي”، في حين لا يحضر باختين بوجوهه المتعددة كما نجدها في “جمالية الإبداع اللفظي” أو “أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية”: الظاهراتي، التاريخي، التداولي، عالم النصوص، عالم الثقافة، السيميائي، إلخ. غالبا ما يشعر الكاتب بالتردد وتنتابه رهبة آنية أو مستمرة وهو يباشر نقل النصوص من بيئة مختلفة تحكمها ثقافة ولغة ونفسية معيّنة إلى أخرى مغايرة في جميع المستويات، ويخشى من إنهاك النص الأصلي لينفصل عن أصوله الثقافية. وبالنسبة إلى المترجم المغربي، فالتردد والرهبة والخوف من الفشل في نقل النص الطويل (كتاب فكري، رواية مثلا) هي محرك آلة الترجمة واستمرارها، كل كتاب قيد الترجمة هو ركوب لذيذ لأهوال الترجمة. ويؤكد نصيرالدين، أنه يهتم بالنص المنقول منه بكل تفاصيله، باعتباره ملفوظا مرسلا في ظروف تواصل معينة إلى مرسل إليهم ليسوا هم قراء العربية، لذلك بالدرجة الأولى يجب فهم النص فهمًا دقيقا أثناء ترجمته، بكل حمولته اللغوية وسياقاتها المتعددة (مجتمع، دين، سياسة، فن، إلخ). وبالنسبة إليه، لكل نص مجالاته المهيمنة، فأنت حينما تترجم رواية فرنسية مثلا، لا تترجم اللسان بصفته لسانا، فاللسان موجود في القواميس، أما في الرواية فإنك تترجم تخييلا، بشخصيات وأمكنة وأزمنة، تتبادل خطابات تمس الحياة الحميمة، المجتمعية، السياسية، الفنية وما إلى ذلك؛ أهتم بالنص الأصل في حدود فهمه دون الإخلال بمعنى من معانيه، ولا يهمني تأويل أو تلقي النص من هذا القارئ أو ذاك؛ مهمتي تتلخص في نقل نص نقلا جيدا، دون حذف أو زيادة أو نقصان؛ بمعنى لست مسؤولا عن محتوى النص، المسؤول هو كاتبه الأصلي. لم يعد ذلك الناقد يكتب نقدا، بل صار خبيرا سياسيا، من أولئك الخبراء الذين يستعان بهم في القنوات التلفزيونية الفضائية فإذا استحسن القراء الحكاية أو نفروا منها فتلك مشكلة المؤلف الأصلي، يقول شكير نصرالدين، إذ عندما تصادف الحكاية هوى القراء واستحسانهم، فإنهم لا يلتفتون إلى المترجم، فهم يمتدحون الحكاية ويغفلون أنها مترجمة، ولا يشيدون إذاك بمن ترجمها؛ المعادلة عندي هكذا، أنا مسؤول عن لغة النص المنقول، ولا أنتظر جزاء ولا شكورا. هناك إجابات متعددة حول هل الترجمة مشروع فكري وعلمي وبيداغوجي ضروري في وقتنا الحالي سواء محليا أو عربيا، وبالنسبة للمترجم المغربي، شكير نصرالدين، لا يمكن للواحد منا إنكار مثل هذه الضرورة، لكن الواقع أننا متخلفون، محليا وعربيا عن ركب الترجمة كما هي في بلدان قريبة منا جدا، إسبانيا، فرنسا، إيطاليا على سبيل المثال. مشددا على أن تخلفنا المُركّب هو ما يجعل كل ما هو ثقافي في ذيل الأولويات، إن كانت هناك أوليات أصلا. وتقييم واقع الترجمة مقارنة مع الطموحات تتوسع بالنسبة إليه، فهناك ترجمة العلوم الحقة، ترجمة العلوم الإنسانية، ترجمة الآداب، وكلها خارج الاعتبارات المؤسساتية، رغم وجود مؤسسات تحمل في عناوينها لفظ الترجمة أو التعريب، لهذا نرى أن المتداول والأكثر إشعاعا هو تلك الترجمات التي حملها ويحملها الأفراد ضمن مشاريع خاصة، بتشجيع من ناشرين يراهنون على الترجمة في الرواية والفكر عموما. الناقد والمترجم الترجمة التهمت وقت الناقد (لوحة: لأسامة بعلبكي) الترجمة التهمت وقت الناقد (لوحة: لأسامة بعلبكي) نطرح سؤالا مزدوجا على محدثنا: هل أثر الناقد شكير نصرالدين في المترجم أم العكس؟ فيجيبنا موضحا “الناقد فيّ مدني بمعرفة النصوص الأدبية أو الفكرية، سواء من حيث التاريخ الأدبي، أو تاريخ الأفكار والمدارس النقدية ومقاربات التحليل النصي (السرديات، السيميائيات، نظريات التلقي، القراءة، إلخ) وبحكم الاحتكاك طويلا مع نصوص مغربية وعربية وفرنسية، فإني بصفة الناقد/ المترجم، أكون دائم الإنصات إلى نصوص أخرى، قراءة وتحليلا ونقلا، حيث أن العدة النظرية والمعرفية للناقد تفيدني أثناء ترجمة كتاب نقدي مثلا كما عند ترجمة رواية”. ويعتبر أن المشترك هو قدرة القارئ، ناقدا أو مترجما، قدرته الحوارية إذا جاز القول، إذ يصادف في هذا النص أو ذاك دوال وملفوظات إذا لم يكن لديه ما يشبه تلك المعرفة الموسوعية بالنصوص وتاريخ الأدب، فإنه قد يجانب الصواب كثيرا. هذا عن المظهر الإيجابي لحضور الناقد في المترجم، لكن هناك مظهر سلبي، خارجي هذه المرة، ويتمثل في أن الترجمة أخذت بل التهمت وقت الناقد، إذ لم أعد أتابع كتابةً ما يصدر هنا وهناك، وإن كنت أواصل المتابعة بصفة القارئ فقط دون أن أحوّل ذلك إلى دراسات أو مقالات. سواء بالنسبة إلى النصوص المترجمة أو المتعلقة بالنقد، غالبا ما تكون العلاقة ملتبسة بالناشر، وعطفا على ما سبق، يشير شكير نصرالدين إلى أن بداية النشر كانت في صورة كتاب، نقدية أول الأمر، وفي ما بعد جاءت اقتراحات ترجمة روايات من الناشرين. ويضيف “على العموم علاقتي بالناشر يطبعها الاحترام المتبادل، لا تخلو العلاقات الاجتماعية من توتّر، أحيانا قد يتعذر النشر لأسباب تقنية، مالية، فيحدث تأخر عما كان متوقعا، أو أن يتلكأ الناشر في دفع ما بذمته، لكن شخصيا العلاقة يطبعها ميسم الصداقة، ولهذا فحتى عند ظهور مشكلة ما فإن حلها يكون في هذا الإطار، اعتبارات الصداقة والمودة التي تتغلب في نهاية المطاف على كل المصاعب”. وإذا كان النقد آلية كاشفة للنصوص الرديئة، نتساءل هل مبضع شكير نصرالدين النقدي أوقعه في خلافات مع ناشرين وكتاب ومؤلفين، ليجيب بأنه لا يذكر أنه تصدّى كثيرا بحدة لنص من النصوص التي كانت موضوعا لكتابة نقدية، ما خلا مناسبتين، في الأولى تعلق الأمر بقراءة نقدية لنص شعري، أراده صاحبه أن يكون قصيدة نثر. ويتابع “ما حصل أن ذلك الشاعر انتهى به المطاف إلى اهتمامات أخرى، وإن كان يحتفظ بقبعة الشاعر، والمرة الثانية عندما قمت بتفكيك قراءة نقدية لدراسة نقدية، أي ما يسمّى نقد النقد، وفي هذه المرة أيضا، لم يعد ذلك الناقد يكتب نقدا، بل صار خبيرا سياسيا، من أولئك الخبراء الذين يستعان بهم في القنوات التلفزيونية الفضائية. ما خلا ذلك، تصلني أصداء لكن ليس في شكل مكتوب، وإنما في صورة عتاب شفوي أني كنت قاسيا بعض الشيء على فلان أو علان”. غالبا ما يشعر الكاتب بالتردد وتنتابه رهبة وهو يباشر نقل النصوص من بيئة مختلفة إلى أخرى بالنسبة للدرس النقدي المغربي فقد استفاد كثيرا من منجزات المترجمين المغاربة منذ بداية سنوات 1980، حسب شكير نصرالدين، وذلك بضخ نفس جديد في الدرس النقدي الذي استنفد كل ما جادت به نقود “المحتوى”، وجمالية “الفن للمجتمع”، والنهل من معين ما يصطلح عليه بالمدرسة البنيوية الفرنسية تحديدا، في علم السرد، والشعرية، والفلسفة. رغم هذه الترجمات وتنوع وتعدد المختبرات في الجامعات المغربية، يؤكد شكير أننا لم نصل إلى نقد مغربي بهذا الاسم. ويقول “صحيح أن هناك نقادا مغاربة، لكن ليس لدينا نقد يمكن أن نسميه ‘المدرسة المغربية’، ما لدينا هم نقاد بمثابة أشياع لمدارس نقدية غربية: فهذا تخصص في السرديات، وذاك في السيميائيات، وثالث في التلقي، وآخر في نقد التحليل النفسي، أو السوسيو نقد”. ويختم حديثه لـ”العرب”، بأنه مضت أكثر من ثلاثين سنة ولم يتحقق الصهر، هناك دائما تلقف لما ينتج غربيا، فلا نحن ذهبنا بهذا النقد بعينه إلى غايته ولا بذاك، كلما ظهرت موضة، يتلقفها أحد ما ويتوهم فيها المِلكية والسبق، ولا يقدم فيها أو منها الجديد. إذ لا نستفيد من الموجود السابق، ولا نربطه بغيره، بل نتلهّف إلى الجديد، نلهو به فترة ثم نتركه، وبالتالي، فإن التعامل الاستهلاكي مع النقود المنجزة غربيا بهذه الطريقة لن يؤسس لمدرسة نقدية جديرة بهذا الاسم. ShareWhatsAppTwitterFacebook

مشاركة :