«تونس على الأريكة»... تجربة في التحليل النفسي

  • 7/27/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

كيف يمكن أن نشخّص مرض السكان والمكان؟ كيف نكتشف هذا الفصام الجماعي الذي يجعل المرض يخترق كلمات سكان مدينة تونس عندما يتكلمون عنها، وعندما يجيبون عن أسئلة من قبيل: لو كانت مدينة تونس غلة من الغلال ما هي هذه الغلة؟ ولو كانت حيواناً ما هو هذا الحيوان؟ ولو كانت لوناً من الألوان ما هو هذا اللون؟ تتحول المدينة في التحليل النفسي الحضري إلى شتات من الكلمات، إلى مجرد كلمات يطلقها السكان للتعبير عن الفضاء العمومي المشترك حيث يتقاطع التونسي المحافظ والثوري والفضولي والعدائي والنبيه والساخر والعجول والثرثار واللامبالي... كلمات تخرج من الأفواه بذاكرة الأشخاص الفردية وبذاكرة الجماعة المشتركة... كلمات هي نافذة تفتح فجأة للشخص عندما يتلقى سؤال التحليل النفسي لينظر ويلاحظ ويعيد اكتشاف مدينته... مدينة ليست مجرد مجال عمراني حضري وإنما هي جسد المواطن وباطنه، وهي أيضاً مرضه. مدينة وسكان وكلمات. تلك هي مقومات حصص التحليل النفسي التي نظمها المسرح الوطني التونسي بإدارة المسرحي فاضل الجعايبي، بالإشتراك مع الوكالة الوطنية للتحليل النفسي الحضري في فرنسا ضمن مشروع لآسيا الجعايبي. قُسمت مراحل المشروع المسمّى «أريكة تونس» إلى 3 أقسام: القسم الاول كان في ميدان الحلفاوين، والثاني في حي البحيرة، والثالث في ضاحية حلق الوادي. الحصيلة هي رصيد من الكلمات وشذرات نصوص جُمعت من أفواه المستجوبين. ثم يتدخل الفن المسرحي في مرحلة رابعة لإعادة بناء كلمات السكان وتقديم تشخيص لأمراض المدينة واقتراح حلول في إطار دراماتورجيا تُبنى على عرض أدائي لأطباء وباحثين هم أيضاً في حقيقة العرض أو وهمه لا يعالجون المرض بقدر ما يعيدون إنتاجه في شكل فرجة. وحضر التظاهرة ثلاثة فنانين باحثين لهم خبرة في هذه المشاريع التي تقف بين الواقع والفنون الأدائية «Performance» وهم: لوران بوتيه وشارل ألتورفير وكاميل فرانشيه. معجب غير معجب قدم تلامذة «مدرسة الممثل» في المسرح الوطني عرضاً أدائياً في ميدان الحلفاوين، ومر المشروع من الواقع إلى العرض الفني. ويقول الإعلامي التونسي نجيب قاصة: «كان ميدان الحلفاوين مثل فضاء «لاغورا» اليوناني. وكان الناس يشعرون بأنهم متورطون باعتبار أنهم لا يتكلمون إلا إنطلاقاً من أن الكلام مَهرب ومتنفس من إخراج للعرض يقوم على بسط الشكوك». ويضيف: «لا بد أن نأخذ في الاعتبار التوتر القائم بين الممثل الذي يرأس الحصة (لأن الانطباع هو أننا نحضر ندوة علمية) وبين المتدخلين الخارجيين وهم في ما يبدو ليسوا مدعوين للمشاركة في عراك التظاهرة. والنتيجة هي أننا لم نعد نعرف إن كنا في الوهم الدراماتورجي أم في حضور الأشخاص الأحياء المحتجين على منظمي التظاهرة؟». ويختلف بوبكر غزال (ناشط في الحركة الطلابية) في الرأي مع نجيب، قائلاً: «كان العرض كأنه في قاعة مغلقة، ولم يستفد من وجوده في مكان عام. اهتمام الناس ضعيف رغم عددهم الكبير في مقاهي الميدان. وشخصياً لم تنطلِ عليّ حكاية من تكلموا وكأنهم جاؤوا صدفة، أعتقد أن كل شيء كان مبرمجاً، ولم أصدقه». أما عن قضية معاينة أمراض المدينة، فيرى أن «العرض يسخر من المريض ولا يعالجه. ويؤكد العرض رغم قيمة علم التحليل النفسي أنه علم لا يخرج عن الدائرة البورجوازية. وأثارت إنتباهي الإشارات إلى السلطة السياسية في تاريخ تونس ما عدا السلطة السياسية الحالية. هل هي مثالية؟ هل لأن المسرح الوطني تابع للدولة؟». ويضيف: «موضوع الملتقى ليس سوى المرأة. تلك المواطنة المتميزة التي حصّنت المجتمع التونسي ضد رياح التسونامي. نتنبّه ونحن أمام وضع مدينة تونس على الأريكة أن المدينة تحمل اسم امرأة، ونتنبّه إلى أنها ليست موضوع التحليل النفسي. لقد سمعنا خطاباً يوضح فصام الرجال في مدينة تونس. كأن ذلك يوضح أن الرجل المواطن هو الذي أصابه الاضطراب النفسي بما حوّله إلى صنف من الأحياء خارج التاريخ، بعيد بل بعيد جداً من المرأة رمز الحداثوية الرافضة للفكر السلفي وعدم الاستقرار». ويتساءل بوبكر غزال: «ماذا لو وضعنا هؤلاء الممثلين على أريكة؟ وماذا لو وضعنا المنظمين على أريكة؟ وماذا لو وضعنا المسرح الوطني على أريكة؟ وماذا لو وضعنا هؤلاء الحاضرين الذين تقول ملامحهم أنهم يفهمون الواقع على أريكة؟». المرض النفسي في الفن قدم الفاضل الجعايبي العام 2001 مسرحية «جنون» إنتاج شركة «فاميليا»، واستعاد فيها موضوع المرض النفسي. حينها كان هو المخرج ، أما الآن فابنته هي المخرجة وهو المنتج ضمن المؤسسة المرجعية في المسرح التونسي. في مسرحية «جنون» شخصيتان رئيستان: «نون» شاب مصاب بالذهان، وطبيبة نفسانية متمرسة. يتساءل الجعايبي في مقدمة نص المسرحية: «كيف يمكن أن نقتبس للمسرح سرداً طبياً؟». انطلق من نص ناجية الزمني «يوميات خطاب فصامي»، وهو حصيلة 15 سنة من العلاج بين طبيبة ومريضها، ليصل إلى المسرح. وانطلق في مشروع «تونس على الأريكة» أيضاً من كلمات السكان المرضى بالمكان، ليصل إلى شكل أقرب إلى فنون ما بعد المسرح الأدائية. هو «أقرب» لأن بلاغة المواجهة بين الخشبة والجمهور ظلت موجودة. يحب الجعايبي موضوع الجنون ويخاف منه أيضاً إذا فقد حقيقته. ويسأل: «كيف يمكن أن تقارب مسرحياً الجنون وأن تتحاشى أخطار الابتذال والعرض المحكوم بالصدفة والارتجال والاستسهال والنمطية؟». لقد نجحت مسرحية «جنون»، وعرضت في القارات الخمس تقريباً. وانتقل الجعايبي اليوم إلى ما يسمّيه «التمشي / اللعبة» في شكل «تونس على الأريكة». يجيب التحليل النفسي الحضري عما يساعد على شفاء المدن. ويؤكد تلامذة مدرسة الممثل بالمسرح الوطني في العمل الاول لهم أن الرابط بين المسرح والمدينة بديهي منذ ميلاد المسرح الإغريقي. ويواصل الجعايبي سؤاله منذ 2001: «أي أدوات سردية نجعلها في متناول الممثل السارد المتقمص للشخصية». ولهذا السؤال إطار خطير: «كيف نقترح تحديداً للذهني وحاشية رغباته وصوره الاستعارية والشعرية والهذيانية المرئية والسمعية التي تجرفها حمى المريض الجنونية؟». يخرج التحليل النفسي رأسه من ركام تحولات «الربيع العربي». وقد يزدهر في السنوات المقبلة مجال التحليل النفسي للربيع العربي باعتباره ربيع الحروب الأهلية، ربيع الأمراض التي تسكن جسد المكان العربي الآن، ومن سنوات، ومن عقود، ومن قرون، ومن عصور.

مشاركة :